Q إذا كان دين اليهود والنصارى باطلاً، فلماذا أبيحت نساؤهم وذبائحهم؟
صلى الله عليه وسلم بالنسبة لإباحة نساء أهل الكتاب وذبائحهم وتسميتهم أهل كتاب ودينهم لا يقبل عند الله تعالى، فهذا ليس تشريفاً لهم، وإنما هو تشريف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تشريف الله للمسلمين أنه أباح لهم ذبائح أهل الكتاب ونساءهم، ووسع عليهم وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفاً على المشركين حتى أنزلت سورة البينة، فجاء فيها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، فقال أبو بكر: استوت أكتافهم ورب الكعبة، فليس لهم أي شفوف على المشركين، فهم جميعاً شر البرية عند الله، وهم جميعاً إلى النار.
لكن إنما أبيحت ذبائحهم وأحل نساؤهم تشريفاً للمسلمين، لا تشريفاً لهم، هم ما لهم أي مزية في ذلك، بالنسبة لتشريف المسلمين بإباحة هؤلاء؛ لأنه على الأقل يجمعهم وإياهم بعض الأخلاقيات، ولهم مرجع يرجعون إليه وهو مرجع الدين، فلهذا أبيح للمسلمين نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وأما المشركون الآخرون فليس لهم مرجع، بل إنهم يغيرون دينهم متى شاءوا، وحتى نساؤهم لم يكن مؤتمنات في أي شيء، لأنه لا يحبسهن أي شيء؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [كانت نساء الجاهلية على قسمين: من لا ترد يد لامس ومن لها خدن]، وفي حديث علي بن أبي طالب: أنه كان النكاح في الجاهلية على قسمين أيضاً، وهذا كله يقتضي عدم الوفاء، وعدم العفة والحصانة، وهذه القيم توجد في أهل الكتاب نظراً لما معهم من القيم الباقية من دياناتهم المحرفة.
ونحن لا ننكر بعض الميزات المختصة بأهل الكتاب من الأحكام مثل ما ذكرنا، ومثل أن الله جعل الذين آمنوا بعيسى من أهل الكتاب أقوى من جميع الكفرة، فهذه ميزة ضمنها الله لعيسى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، فسيبقون أقوى من اليهود وأكثر منهم أعداداً وأكثر منهم قوّة دنيوية.
ومن هنا فقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، يوجد خلاف للمفسرين في معنى قوله: (اتبعوك)، فمنهم من قال: المقصود بذلك الحواريون وأتباع عيسى عليه السلام الذين سلكوا ملته قبل التحريف والتغيير، وهم من جاء قبل أن يغير بطرس النصرانية، فهؤلاء ضمن الله لهم هذه المكانة، و: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ليس ضماناً لبقائهم إلى يوم القيامة، بل النهايات كلها إلى يوم القيامة.
ومنهم من قال: المقصود بذلك كل من انتسب إليه حتى لو كان الاتباع مجرد انتساب، وليس المقصود أن يتبع ملته، وعلى هذا يدخل فيه من عاصرنا ومن يأتي بعدنا من النصارى الذين يزعمون الانتساب إلى عيسى عليه السلام.
وبعض الميزات الأخرى التي اختصوا بها في الأحكام مثل ما يختص بدعوتهم، فدعوتهم ليست كدعوة أهل الشرك، بل تختلف عنها في بعض الأصول كما في قول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، وكذلك إخبارهم بإيماننا برسلهم ونحو هذا، فدعوتنا أهل الكتاب متميزة عن دعوة ما سواهم.
ومما امتازوا به أن من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه يؤتى أجره مرتين، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: العبد إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها فأحسن تعليمها وأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي)، أي: كان على ملته قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما بلغته الدعوة آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يؤتى أجره مرتين.
فهذه ميزة لكنها بعد الإسلام، وهذه الميزة أيضاً هي نفسها المذكورة في قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، فالمقصود بهم الذين آمنوا من النصارى، وليس المقصود النصارى على كفرهم؛ ولذلك قال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [المائدة:83 - 85] فهؤلاء هم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عدد كبير من النصارى في الدين، وأخبر أن اليهود قوم بهت؛ ولذلك قال: (لو آمن بي من اليهود عشرة وفي رواية: عشرون، لآمنوا كلهم)، فلم يؤمن به من اليهود في زمانه -مع أنه عاشرهم وعاش بينهم- عشرون شخصاً، بل الصحابة الذين هم من أصل اليهود قلة جداً، ولهم مزية وفضل عظيم جداً، وأكثرهم مشهود له بالجنة مثل عبد الله بن سلام ومخيريق؛ لأنهما خرجا من هذا الشعب المتعصب المصاب بالحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واتباعهم له مزية عظيمة جداً، يضاعف لهم بها الأجر.
أما النصارى فقد أسلم منهم عدد كبير ودخلوا بعد ذلك في دين الله حين فتحت بلادهم.
وقد اختلف في مزية اليهود والنصارى من العرب: هل لهم مزية على اليهود والنصارى من غير العرب، فذهب قوم إلى دخولهم في المزية؛ لأن اصطفاء الله لهذا الجنس من الناس يقتضي اختياراً لهم، وعلى هذا يترتب بعض الأحكام، منها: أن عمر رضي الله عنه لم يفرض عليهم الجزية كما فرضها على غيرهم، بل صالحهم على أن يدفعوا الزكاة كما يدفعها المسلمون، وكان ذلك سبباً لإسلام كثير منهم.
وهذه الميزة لم يجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فرض على نصارى نجران الجزية، وهي أربعة دراهم على كل حالم وأربعة آلاف حلة في السنة لكن لم يجعلها على أفرادهم إنما جعلها عليهم جميعاً، فكانت الجزية بمثابة الصلح، لأن الجزية تترتب على كل محتلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل عليهم أربعة آلاف حلة ولم يحصهم عدداً، وكذلك يهود اليمن، وكذلك يهود خيبر بعد الهزيمة، فإنه أقر معهم التعامل على أن يأخذوا نصف ثمار خيبر، وأن يردوا عليهم نصفها، على أن تؤخذ منهم الجزية، ثم أخرجهم عمر.
أما الذين هم من العرب فقد أقرهم عمر ولم يخرجهم من جزيرة العرب، فقد أقر نصارى نجران، ويهود اليمن، وبني تغلب، فلم يخرجهم من جزيرة العرب مع أنهم أهل دين، وأخرج اليهود والنصارى الذين هم من غير العرب.
وعموماً هذه المسألة محل خلاف، ويترتب على هذا الخلاف أحكام فيما يتعلق بأخذ الجزية منهم ومعاملتهم معاملة مختصة.