قيام الحجة على من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم

ثم إن من لحقه لا يقبل منه الإيمان قطعاً حتى ولو آمن بجميع الرسل ما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).

واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي)، فكثير من الذين يسمعون الحديث من الذين يهتمون بالمجال الفكري يقولون: تقوم الحجة بمجرد أن يسمع الإنسان باسم محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته وبالدين الذي جاء به، حتى لو سمع به مشوهاً، مثل أكثر المعاصرين من أهل الكتاب والكفرة، فإنهم لم يسمعوا به إلا مثل ما سمعوا بـ بوذا مثلاً.

وذهب آخرون إلى أن المقصود بالسماع السماع غير المشوه، فهو الذي تقوم به الحجة، ومعناه أن يعلموا أنه رسول، وأنه رسول آخر الزمان الذي تنسخ ملته كل ما سبق.

وهذا يؤخذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه؛ ففي حديث جبير بن مطعم الذي ختم به مالك الموطأ: (لي خمسة أسماء، فأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وأنا العاقب)، فهذا يقتضي أن من لم يسمع به على وصفه، ولم تبلغه دعوته كما هي لا تقوم عليه الحجة بمجرد السماع، ولكن دلالة هذا دلالة بعيدة، في مقابل التصريح بالسماع في الحديث السابق.

وعموماً يترتب على هذه المسألة كثير من الفروع: منها: لعن من مات من الكفرة ولم تبلغه الدعوة كما هي.

ومنها: استباحة دمائهم وأموالهم في حياتهم إذا سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبلغهم الدعوة كما هي، كالكفرة في زماننا هذا، فكثير منهم لم تبلغهم الدعوة كما هي، فهل تستباح دماؤهم وأموالهم بمجرد هذا البلاغ والسماع الذي حصل أو لا؟ وأما تكفيرهم فلا شك ولا اختلاف فيه بين الناس، فهم كفار قطعاً، حتى لو سمعوا بهذه الشريعة سماعاً مشوهاً كما ذكرنا، ومن تساهل فلم يصفهم به على اعتبار أنهم بمثابة من لم تبلغه الدعوة، فقد تساهل تساهلاً زائداً؛ لأن الذي يستدلون به ويأخذون به هو بعض المفهومات من الآيات، وكلها من مفهومات المخالفة، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة:6]، فـ (من) هنا يزعم بعض الناس أنها تبعيضية، وأنه ليس كل أهل الكتاب ولا المشركين كفرة.

ولكن هذا الوجه أبعد ما يكون عن الصواب، فـ (من) بيانية للذين كفروا، وبيانهم أنهم ينقسمون إلى قسمين: إما أن يكونوا أهل كتاب وإما أن يكونوا مشركين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015