ومن أصول الإيمان الإيمان باليوم الآخر: وما أحوج الإنسان إلى هذا في مجال عقله، فالعقل يبحث كما ذكرنا بين هذين النجدين: نجد المنفعة ونجد المضرة، فإذا اقتصر في بحثه على حياته الدنيا فقط، ولم يعمل إلا لمدة حياته، كان العقل ذا مجال ضيق، ولم يستفد أحد من أحد؛ لأن كل إنسان لا يدري متى يموت، فيفكر فقط لساعته التي هو فيها، ولا يفكر للمستقبل، ومن هنا تتعطل مصالح الناس، إذ لو كان الإنسان لا يبني إلا على قدر حاجته في لحظته، ولا يزرع إلا على قدر حاجته في لحظته تلك، ولا ينتج إلا على قدر حاجته في لحظته تلك؛ لتوقفت المصالح كلها، لكن بإيمان الإنسان بالمستقبل، وإيمانه باليوم الآخر، وبالعرض على الله سبحانه وتعالى، وبأن الناس جميعاً من مضى منهم ومن يأتي سيحشرون إلى ديان السماوات والأرض، ويوقفون على أعمالهم، وأن كل شيء مكتوب، وأن منهم شقياً وسعيداً: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:106 - 108].
وتذكر الإنسان أنه حينئذ إما أن يكون من هؤلاء وإما أن يكون من هؤلاء: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، إما إلى جنة وإما إلى نار، وبأن مصلحته الحقيقية هي مصلحته الأخروية، وبأن وقايته الحقيقية هي وقايته من عذاب يوم القيامة، فأية مصيبة أصابته في الدنيا إذا كان بعدها نعيم الجنة فإنها لا أثر لها ولا ضرر، وأي نعيم وجده في هذه الدنيا إذا كان بعده عذاب الآخرة في النار فلا نفع فيه أبداً، فلا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بعده الجنة؛ إيمانه بهذا مقتضٍ منه للاستمرار في عمله حتى في الدنيا، حتى للمصالح الدنيوية، فالإيمان باليوم الآخر نافع حتى في الإنتاج الدنيوي، فضلاً عن الإنتاج الأخروي الذي هو العبادة التي هي قيمة الإنسان.