أما الثلاثة الأخرى فأولاً: الإيمان بالله محل اتفاق في عمومه بين أهل السنة، بل بين المسلمين جميعاً، وإنما الخلاف في جزئيات يسيرة.
فالإيمان بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بألوهيته، أي أنه خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة والدعاء ويستحق أن يصمد إليه في الحوائج كلها.
الثاني: الإيمان بربوبيته: أي الإيمان بأنه لا خالق للكون سواه وأنه وحده المدبر لشئون هذا الكون كله، ولا يمكن أن يعطي أحد ما منعه، ولا يمنع أحد ما أعطى، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فهذان محل اتفاق بين أهل السنة كلهم.
الثالث: الإيمان بأسمائه وصفاته: وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: الإيمان بأسمائه وهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً.
الثاني: الإيمان بصفاته وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يدرك العقل كونه صفات لله، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، فإنهم يؤمنون بكل ما يدرك العقل كونه صفة لله، والصفة إنما ينعت بها الموصوف.
ومن ذلك العلم، فالله عليم، والله عليم بذات الصدور، والإرادة كذلك، فيدرك العقل كونها صفة، فلذلك تقول: الله مريد، وكذلك القدرة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك الحياة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك القدم والبقاء يدرك العقل كونهما صفة، ولذلك يمكن أن يقال: الله باق، الله قديم إلى آخره، وكذلك الوحدانية يدرك العقل كونها صفة، وكذلك السمع والبصر والكلام يدرك العقل كونها صفات، ولذلك يوصف الله سبحانه وتعالى بها.
القسم الثاني: ما يدرك العقل كونه أفعالاً لله وهو أيضاً محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، إلا في جزئيات يسيرة من الأفعال سنذكر الخلاف فيها، فمثلاً: خلق السماوات والأرض وخلق الكون كله من أفعال الله سبحانه وتعالى، وإنزال المطر وإنبات النبات والهداية والإغواء والإماتة والإحياء، كل ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى التي لا يخالف فيها أحد من أهل السنة، فهم يعلمون جميعاً أن هذه الأفعال من أفعال الله ويتفقون عليها لا ينكرها أحد منهم.
من الأفعال ما يتوهم منه بعض الناس تشبيهاً لله بخلقه، كتلك التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وهو خلاف ضيق محصور.
فجمهور أهل السنة يعلمون أن كل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق وليس فيه نقص، فإن النقص محال عليه، ومن هنا أنه سبحانه وتعالى ينزل كل آخر ليلة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار، ويداه سحاءان بالعطاء لا تغيضان، والله سبحانه وتعالى يقبل الصدقات من عباده، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة لفصل الخصام، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23] والله تعالى يغضب ويرضى، والله سبحانه وتعالى يضحك ضحكاً يليق به.
فكل هذه أفعال تليق به تخالف أفعال المخلوقين، ولا يشابهها فعل المخلوق وإن اشترك معها في الاسم، فلا أحد من أهل السنة يشبه هذه الأفعال من أفعال الله بأفعال المخلوقين أبداً، بل يؤمنون بأن الله يفعل فعلاً يليق بجلاله وهو كمال في حقه، وأن المخلوق يفعل فعلاً يليق بقدره أيضاً، وأن أفعال المخلوقين التي تنسب إليهم هي من أمرهم، وأن أفعال الله التي تنسب إليه هي من أمره سبحانه وتعالى، وأمر الله مباين لأمر المخلوقين.
ولا يشبه أحد من أهل السنة نزول الله أو استواءه أو تكلمه أو غضبه أو رضاه أو ضحكه بشيء من أفعال المخلوقين أبداً! بل يؤمنون جميعاً بأن ذلك لا يشبه شيئاً من أفعال المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بذلك وأنها صفات كمال في حقه.
إذاً الخلاف في صفات الأفعال خلاف يسير محصور، فلابد أن نعلم أن الذين يروجون هذه الأفهام ما أرادوا بذلك تكذيب الله ولا الرد عليه ولا الرد على رسوله، بل أرادوا بذلك تنزيهه عن خلقه حينما فهموا أن ذلك نقص، والغلط من قبل الفهم فقط وليس الخطأ في النص!، لكننا نعذرهم في خطئهم؛ لأنهم أعملوا عقولهم في تنزيه الله عما لا يليق به وآمنوا به وأحبوه وعبدوه، فلذلك أخطئوا في الاجتهاد في أمر يسير جداً، ليس من الأمور التي فصلها الشرع تفصيلاً وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، فإنما هو أمر محصور يسير.
القسم الثالث: ما لا يدرك العقل كونه صفة ولا فعلاً، فهذا قد اختلف فيه أهل السنة وهو فقط في أمور محصورة لا تتعدى تسعة: وهي الوجه والعين واليدان والأصابع والقدم والساق؛ فهذه أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه، وقد أجمع المسلمون جميعاً على أن ما قاله الله حق وأن ما قاله رسوله حق، وإنما اختلفوا فقط هل هي صفات لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين تقر كما جاءت ونؤمن بها كما هي، أم نؤولها بصفات أخرى من صفات الخالق، أو نحيل علمها إلى الله.
فهم إذاً جميعاً متفقون على أنها حق وأنها صدق وأنها من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن من أصاب منهم علم أنها لله سبحانه وتعالى كما يليق به وأنها لا تشبه صفات المخلوقين وأنها وصف كمال في حق الله، فوجه الله كمال له، ويداه مبسوطتان كمال له، وعينه سبحانه وتعالى لا يغيب عنها شيء من خلقه، وكذلك قدمه وساقه وأصابعه كل ذلك ثابت له سبحانه وتعالى، فكل هذا من صفات الكمال في حقه سبحانه وتعالى، والذين يؤولون أو يحيلون العلم في ذلك إلى الله ويفوضونه إليه اجتهدوا فأخطئوا، لكن اجتهادهم مقبول؛ لأنهم في مثل هذا الموقف إنما طلبوا الإيمان بالله وتنزيهه عن النقص، وأرادوا تحقيق الإيمان به وتحقيق محبته، فنحن نعذرهم في خطئهم.
ومن هنا فلا يحل التعصب في مثل هذا النوع، وبالأخص في الأمور التي تؤدي إلى تكفير المسلمين بغير حق، أو تفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فكل ذلك من الممقوت شرعاً المذموم، ولهذا فإن الشافعي رحمه الله قال في الأم: كل الفرق تقبل شهادتهم وروايتهم إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في المذهب، فجميع الفرق حتى وإن كانوا من القدرية أو من الشيعة أو من الخوارج من لم يصل منهم إلى درجة التكفير في بدعته تقبل شهادته وروايته، ولذلك فإن البخاري رحمه الله أخرج في الصحيح عن عبيد الله بن موسى وهو من الشيعة، وعن هشام الدستوائي وقد قال بالقدر، وعن عمران بن حطان وهو من الخوارج.
فأصحاب الفرق إذا لم يصلوا إلى حد التكفير في بدعتهم، ولم يكن مطعوناً عليهم في دينهم بالصدق، فإنه تقبل روايتهم وشهادتهم، ولذلك فإن في المذهب المالكي أن الاقتداء بهم في الصلاة يجوز، وأن الحرورية وهم من أوائل الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه تصح الصلاة خلفهم، وذلك أن علياً رضي الله عنه قال: حين سئل عنهم: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا)، وقال لهم: (إن لكم علينا ثلاثاً: ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا).
والتعصبات في مثل هذا النوع غير مقبولة.