الشرط الثاني: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه.
فإن طالب العلم لابد أن يتواضع، والتواضع من صفات الكرماء: وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى وقد أثنى الله به على خيرة خلقه فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد).
والذي أحرز العلم لا يمكن أن ينيله ولا أن يعطيه لمن لا يتواضع له؛ لأنه ما ناله إلا بشق الأنفس والتعب الشديد ولهذا قال أحد العلماء: ما ابيضّ وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوِّدَه شحوب المطلبِ ولذلك لا يمكن أن ينيله لمن لا يحترمه ويقدره، ولهذا فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، فقال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) بصيغة الاستفهام، ولم يقل: سأتبعك بصيغة القرار، وقال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي) فجعل نفسه طالبًا، وقال: (مِمَّا عُلِّمْتَ) أي: بعض ما علمت، ولم يقل: كل ما عندك، فكان ذلك غاية في التواضع، وهذا التواضع يقتضي الإقبال الكامل على العالم ليأخذ عنه الإنسان علمه، فهذا جبريل عليه السلام لما جاء يعلمنا ديننا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه؛ وكل ذلك لتمام الإقبال عليه، ليعلمنا أن على المتعلم أن يقبل بكل ذاته على المعلم، حتى يكون مستوعبًا لكل ما يقول، وهذا ما أرشد إليه كثير من أهل العلم، فقد قال أحد العلماء في نصيحته لولده: لـ (معي) الهمام اللوذعي الألمعي سِرْ واجمعن علومه في مجمعِ وكن الوعاء لما يفوه به (معي) لا تفلتنك كلمة من في (معي) (معي): لقب أحد العلماء في بلادنا.
حتى الكلمة الواحدة.
ولهذا قال سحنون لولده عندما أراد السفر إلى المشرق: (يا بنيّ! تقدم مصر وفيها ابن القاسم وأصحاب مالك، وتقدم المدينة وفيها أصحاب مالك؛ فإذا وجدت كلمة خرجت من دماغ مالك ليس عند أبيك أصلها فاعلم أن أباك قد قصر في الطلب).