أما العنصر الثالث: ما يتعلق بالكتب العلمية وفضلها.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى أن يكتب عنه غير القرآن فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) وكان ذلك خشية أن يجعل في القرآن ما ليس منه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل النصارى حين أدرجوا كلام المسيح بن مريم وكلام الحواريين في الأناجيل.
وبعد هذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فقد أذن لـ عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمع منه، وأذن لـ أبي هريرة -كذلك- في كتابة الصادقة، وهي صحيفة كانت عنده، كتبها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمرو يسمي صحفه أيضًا بالصادقة، وقال: (لولا الصادقة والوهط والوفيط ما حرصت على شيء من هذه الدنيا) والوهط والوفيط: أرضان لـ عمرو بن العاص وقفهما على الفقراء وجعل نظارتهما إلى ابنه عبد الله، وهما بجنوب الطائف، والصادقة التي كتب فيها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم.
وكذلك فإن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـ أبي شاه) وهو رجل من أهل اليمن، حضر حجة الوداع فسمع خطبة النبي صلى لله عليه وسلم وتعليمه للناس فلم يحفظ ذلك، فسأله أن يأمر أصحابه أن يكتبوا له، فأمرهم أن يكتبوا له.
ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أن أصحابه لما نهاهم عن الكتابة عوضهم الله بالحفظ العجيب فكان أحدهم يسمع الخطبة بطولها فيحفظها كما هي، ويحفظ الحديث الطويل بألفاظه دون أن يحرف شيئًا من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعينهم على الحفظ بالتَّرَسُل في الكلام، وقد كان لا يهذُّ الكلام هذًّا، وإنما قوله الفصل، فلو أراد إنسان أن يعد كلماته لفعل، وكان أيضًا في خطبه يرفع صوته، فقد كانت خطبه تسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد.
وفي الحديث: (كان إذا خطب علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم) وذلك أبلغ لاستقرار ذلك في النفس.
ومثل هذا في تغييره للمنكر ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها بين مكة والمدينة فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أقدامنا، وجعلت أعقابنا تلوح؛ فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) ورفع بها صوته.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها يوم مات سعد بن أبي وقاص دخل عليها أخوها عبد الرحمن يتوضأ في حجرتها فقالت: يا عبد الرحمن! أسبغ الوضوء فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار).
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام حتى يفهم عنه كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم) أي: لتحفظ.
وكان أصحابه يراجعون بعض محفوظاتهم عليه كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء النوم، وأن يجعل آخر كلامه قبل أن ينام هذا الدعاء وهو: (اللهم! أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء: فأعدت عليه فقلت: وبرسولك الذي أرسلت.
فقال: (لا.
وبنبيك الذي أرسلت).