الجانب الآخر: وهو جانب انتقال الجانب السياسي إلى تطبيق عملي في إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، ونحن نعلم كم هي الصيحات والصراعات في مسألة هذه النقطة، كما سيرد أيضاً لها بعض الحديث إن شاء الله، حتى إن مجلس الشعب المصري أصدر قراراً رسمياً واعتمد بشكل أو بآخر ألا يفتح في موضوعات المجلس بصورة أو بأخرى في أي جلسة موضوع تطبيق الشريعة، وأغلق فيه الباب إلى غير رجعة فيما هو مقرر حتى الآن! ونجد أن قضية إقامة الدولة الإسلامية موضع نقد شديد، وموضع تخوف كبير، كما صرح بعضهم بقوله: إذا طبقنا الإسلام وطبقنا الشريعة سنجد نصف المجتمع مقطوعي الأيدي وذوي عاهات! وهذا على اعتبار أن هذا الحكم ينفذ على السارق وعلى الزاني وعلى من أتى حداً، والأمر كما يقولون: كاد المريب أن يقول: خذوني، وإذا كان نصف المجتمع أو أكثر سيطبق عليه الحدود فلأنه كان سارقاً زانياً فاسداً بشكل أو بآخر.
والحقيقة أن التصوير المرعب والمخيف للناس -وأقصد بالناس: عموم المجتمعات- والشعوب المسلمة من تطبيق الحكم الشرعي الإسلامي يتناول هذا الجانب خاصة، وهو جانب تطبيق الحدود.
وكذلك جانب تصوير أن إقامة الحكم الإسلامي سيجعل المجتمع المسلم الذي يُقام فيه هذا الحكم مجتمعاً ضيقاً في علاقته، عدائياً في معاملاته، بدائياً في تصوراته، وهذا التأكيد دائماً نجده في كثير من المقولات التي تعالج أو تنتبه إلى هذا الموضوع، والنصوص في ذلك كثيرة، ونختار بعضاً من النصوص التي تؤكد التخوف من هذا الجانب، أو العداء له على وجه الخصوص: من ذلك قول الدكتور محمد عمارة: إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عندما قرره نبي العصر.
يعني: أن تبقى كما كانت في عهد النبي، ثم نستطيع أن نطبقها اليوم في هذا الجانب.
وهناك أيضاً تصوير الشريعة على أنها نوع من السيطرة والقهر؛ ولذلك يقول محمد خلف الله -ونأسف أن كثير من هؤلاء دخلوا ليكونوا في كلامهم مفسرين وفقهاء مجتهدين وأصحاب علم بأصول الفقه وغير ذلك-: إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس على الناس بوكيل، أو مسيطر أو جبار أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة! وهذا هو التفسير عنده، أي: أنه يقول في قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: فيما يتعلق بشئون الحكم والسياسة، وعلى أساس من هذا كان القرآن يطلب إليه أن يترك أمر عقاب الناس على مخالفتهم تعاليم الله إلى الله نفسه، فالله سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بأن يترك عقاب الناس لله سبحانه وتعالى، وهذا يعني عنده: أنه ليس هناك من حاجة إلى تطبيق الحكم والسياسة أو التشريع الإسلامي.
وأيضاً النقد لهذه الظاهرة يتركز في نقد منهجي حتى في الصور التي يتشبث بها المسلم الواعي، ومن أقرب الأمثلة: كلام الإسلاميين عن الخلافة العثمانية وما كان لها من دور، وأنها كانت نموذجاً -على أقل التقدير- لوحدة الأمة الإسلامية، ونجد أن الطعن في هذا الجانب في الدراسات التاريخية والمنهجية كثير جداً، مما يؤكد قضية التخوف من أن تكون هناك حكومة أو تطبيق للشرع الإسلامي بتكامله المنهجي؛ ولذلك يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري منزعجاً بشدة لتلك المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي والإسلامي باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية ولكيان الإسلام الواحد: وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مرده إلى إخفاق الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الدولة العثمانية، وانفصلت عنها لإقامة منحى تاريخي جديد، وهو منحنىً يرتبط بمفكري الاتجاه الإسلامي الجديد وفصائله.
وهذه نقطة أعتقد أن الأمر واضح فيها، ويكفي أيضاً أن ننقل نصاً عن الدكتور فرج فودة يقول فيه: إن القائلين بالدولة الدينية يضيفون أفعال الخلفاء الراشدين ضمن رصيدهم، والدكتور فرج فودة في كتابه (قبل السقوط) وغيره من كتاباته يركز على أنه لم يكن في يوم من الأيام ما يسمى بتطبيق الشريعة، بعد اعترافه أو غيره شكلياً أو جزئياً بشيئين: عهد النبي عليه الصلاة والسلام ثم عهد أبي بكر وعمر، أما ما وراء ذلك فهو خارج عن هذا التطبيق؛ ولذلك نجد الكتابات مركزة في هذا الجانب، حتى كتب الدكتور عبد العظيم رمضان مقالاً فيه: وجلدوا الأئمة الأربعة بالسياط! واستعرض فتنة الأئمة الأربعة أيام مالك وأبي حنيفة وقال: هذه الحكومات والتطبيقات للشريعة الإسلامية! انظروا كيف كانت في العصور التي تستشهدون بها، وكيف جلد الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة! قال هذا كنوع من الاستقراء لبعض الحوادث التاريخية الجزئية في غير تكامل منهجي، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الدراسة التاريخية المبتدأة يمكن أن تغير نظرة الإنسان في قضية معينة، فإذا أخذنا هذا الجانب مثلاً كحادثة معينة تشوه التطبيق، بينما هي نموذج لقضايا معينة محدودة معروفة الأسباب، ولا يمكن فهمها في غير هذا الإطار المبتدأ.
فيقول: لست أعتقد أن هناك من المسلمين من يرتضي سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه كحاكم! ويقول: رفض حكمه كبار الصحابة من معاصريه لدرجة قتله ورفض دفنه في مقابر المسلمين، ثم دفن دون الصلاة عليه إلى آخر هذه الوقائع المحزنة! وطبعاً ليست وقائع حتى تكون محزنة؛ لأنها ليست صحيحة، وهذا الخط والاتجاه ظاهر كثيراً في كتابات لثلاثة أو أربعة من هؤلاء المفكرين: فرج فودة وفؤاد زكريا والعشماوي، وغيرهم أيضاً، لكن هذه صورة في هذا المجال.