هذا مثال نضربه من القرآن، قصه الله عز وجل علينا في قصة موسى عليه السلام، وما كان منه مع بني إسرائيل، والقصة نقف فيها عند المواجهة التي كانت بين موسى داعية الإيمان، وفرعون داعية الكفر والطغيان: استعان فرعون بالسحرة، وأراد أن يكونوا وسيلة له لإبطال الحق، وإطفاء نوره، وتشويه صورته، وصرف الناس وصدهم عنه، فماذا قال للسحرة يوم جاء بهم، وأرادهم أن يقوموا بهذه المهمة؟ وقبل ذلك نريد أن ننظر إلى هؤلاء السحرة صورتهم، أفكارهم، أقوالهم قبل وبعد الحدث الذي وقع، لننظر فعلاً إلى التغير لندرك به حقيقة الإيمان.
جاء السحرة إلى فرعون، وأول شيء قالوه وخطر لهم وتعلقت به نفوسهم: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، ذلك كان مطلبهم ومطمعهم، وهذا هو أملهم وأمنيتهم.
لم يسألوا: هل القضية حق أو باطل، عذاب أو ظلم؟ هل تترتب عليها مفسدة أو مصلحة؟ هل يتضرر بها أحد أو ينتفع؟ لم يكن ذلك يعنيهم في شيء؛ لأنهم ليست لديهم مبادئ ولا قيم ولا مرتكزات ولا معتقدات بل كانت أهواؤهم تقودهم، وخضوعهم لفرعون وعبوديتهم وذلتهم له تسيرهم، ولذلك قالوا هذا القول، فقال لهم فرعون: نعم، وإنكم لمن المقربين.
أي: سيزيدهم فوق العطاء المادي عطاء معنوياً بأن يكونوا من أصحابه وخلصائه والمقربين منه.
ثم وقعت الواقعة، وألقوا عصيهم وحبالهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وكانوا هم صفوة السحرة، وأعلم العلماء بالسحر، وليس أحد أقدر منهم عليه، وفي لحظة واحدة ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
وفي هذه اللحظة عرف أولئك أن هذا ليس بسحر، وأنها ليست قوة بشر، وأدركوا من واقع خبرتهم هذه الحقيقة، فمباشرة وصفت آيات القرآن ما الذي وقع {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:120 - 122]، وذكر هارون هنا مثير للسؤال؛ لم ذكروا هارون وهو لم يذكر في تلك المواجهة، ولم يلق عصى مع موسى ولم يكن له في هذا شأن مذكور؟ أرادوا أن يقولوا: قد آمنا بالمعتقد والمبدأ لا بالصورة الظاهرة والعمل الملموس، فنحن أدركنا الحقيقة والمفهوم الذي وراء ذلك، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122].
لنرى كيف أصحبت مواقفهم؟ وكيف تغيرت كلماتهم؟ وما هي الآن طموحاتهم وآمالهم؟ فرعون كان مجرد ذكر اسمه من قبل تنخلع له القلوب وتصطك له الركب، وتدور الأعين في محاجرها خوفاً وهلعاً.
هذا فرعون الذي يعرفون بطشه وجبروته وطغيانه قال: {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71]، قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، افعل ما بدا لك فلا خوف في قلوبنا منك، ولا شيء يردنا عما أخذنا من الإيمان والاعتقاد، لماذا؟ لأن الأمر قد اختلف، والتصور قد اتسع، والإيمان قد ثبت ورسخ، فنحن لم تعد حياتنا هي الدنيا بل أصبحت أعظم من ذلك، فافعل ما تشاء، فإن ما تفعله لا يتجاوز هذه الدنيا وما فيها من الأسباب التي قد يكون بعضها ميسراً لك.
ثم قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، كانوا يريدون المال، واليوم يقولون: أملنا وطموحنا، وأعظم ما تتعلق به قلوبنا وتشرئب إليه أعناقنا: أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول السابقين إلى الإيمان والإسلام.
لقد اختلفت مقالتهم ومشاعرهم ومواقفهم، وظهرت قوتهم، وتجلى ثباتهم، ما الذي تغير، وما الذي طرأ واستجد؟ ليس إلا الإيمان، حينئذ نقول: فرق ما بين هذا وذاك في لحظات الإيمان الذي أنشأهم نشأة جديدة، وصبغهم صبغة جديدة حولتهم في كل جانب من جوانب حياتهم ظاهرها وباطنها، فإذا بهم حينئذ ينشئون ويقفون ويتكلمون ويواجهون بغير ما كانوا عليه من قبل.
هذه صورة موجزة لحقيقة الإيمان، وأجلى منها وأوضح وأكثر أمثلة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء إلى العرب وهم في جاهلية جهلاء، وعماية ظلماء، وفي كل ما هم فيه من سخف عقولهم وهمجيتهم، وانغماسهم في الباطل وغير ذلك، ولم يغير فيهم شيئاً من اقتصاد ولا سياسية ولا اهتمام، وإنما جاءهم بهذا الإيمان والإسلام فأنشأهم نشأة أخرى، وصاغ منهم أمة فريدة لا نظير لها في تاريخ البشرية والإنسانية.