الإيمان ليس مجرد نطق اللسان وإعلان الشهادة فحسب، فإن الله جل وعلا قد نفى ذلك بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فأثبت إعلانه للإيمان ونفى حقيقته عنه، وليس الإيمان كذلك هو قناعة العقل بصحة البرهان وقوة الحجة على وجود الله أو وحدانيته؛ فإن ذلك قد كان ظاهراً جلياً لكفار قريش، ولم يكن عندهم شك في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقص في البراهين والأدلة على ثبوت نبوته، ومع ذلك كفروا وجحدوا، وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى بذلك فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]، فقد كانت عندهم الحقائق في درجة اليقين من حيث وضوح الأدلة، وقيام الحجة؛ ومع ذلك جحدوا، والجحد هو الإنكار بعد المعرفة، لماذا؟ ظلماً وعلواً.
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقصها وبينها أبو جهل -عليه لعنة الله- عندما قال: كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة، فإن كانت لهم السقاية كانت لنا الوفادة، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؛ فوالله لا نصدقه الدهر كله! فليست القضية مجرد قناعة العقل دون تسليم القلب بحقيقة هذه المعرفة الإيمانية، وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض مجرداً؛ فإن المنافقين -كما نعلم- خلت قلوبهم من الإيمان، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك، ونفى الله سبحانه وتعالى عنهم الإيمان كما بينته آياته جل وعلا في مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، إلى غير ذلك مما هو معلوم.