ولقد رأينا من يفعل المحرم الذي لا خلاف في حرمته، وذلك قد يكون، لكنه اليوم يطلب أن يعلن المحرم على رءوس الأشهاد، يبيت يستره ربه بالليل، ويهتك ستر الله عليه في النهار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) أي: الذين يجاهرون بالمعصية.
ثم يزيد فوق ذلك أن يستخدم الآيات والأحاديث، وأن يروج الفساد بإنفاق المال الذي آتاه الله إياه! أنا وأنت كلنا مقصرون مفرطون، وقد نرتكب المحرمات، والمعاصي، وكلنا ذاك الرجل، إلا أن الأمر يختلف عندما نقر بها، وعندما نصر عليها ونسهلها، وندعو إليها، ونرغب فيها، وننفق عليها، ونسعى إلى أن يقبلها الناس، تلك قضية أخرى، وتلك مصيبة عظمى، فاروق الأمة عمر بن الخطاب قال كلمات موجزة لا تزيد عن ثلاث: (كفى بالموت واعظاً) فانتفع الناس بها، وذلك لما كانت القلوب حية، وكانت النفوس نقية، وكانت العقول ذكية، وكان الإيمان في القلوب حياً، واليقين في النفوس راسخاً، والنور في البصائر مرشداً.
أما اليوم وقد قست القلوب، وتكدرت النفوس، وضلت العقول؛ فكأن الموعظة لم تعد تجدي نفعاً، ولم تعد تبين حقاً، نقل القرطبي في تفسيره في موضع هذه الآية عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: ومن الناس من يعيش شقياً جاهل القلب غافل اليقظة فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظة إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظة (الذي بان) أي: ذهب وولى ومات وانتهى.
ذلكم قاله أهل الإيمان، ورددوه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10].
قال السعدي في تفسيره: أما لو علموا حلم الله عليهم، وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه بالشرك والكفران، ويجترئون على عظمته بالإفك والبهتان، وهو يعافيهم ويرزقهم؛ لانجذبت دواعيهم إلى معرفته، وذهلت عقولهم في حبه، ولمقتوا أنفسهم أشد المقت، حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب للخزي والخسران، ولكنهم قوم لا يعلمون! ولكنهم قوم لا يعلمون!