ونقف هنا وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف يبعث الروح المعنوية العالية في وسط الملمات وكيف ينير ضوء الأمل في وقت الشدة والكرب كيف يقوي ويعمق جذر الإيمان في النفوس؛ لتثبت الأقدام وترتفع الجباه، ويعظم الثبات بإذن الله عز وجل، وأمة الإسلام اليوم أحوج ما تكون إلى هذه الروح المعنوية، وإلى تعظيم الثقة بخالقها، وإلى ترسيخ اليقين في نفوسها في كل أحوالها، وفي سائر أقطارها، وفي أرض العراق وفلسطين على وجه الخصوص، وغيرها من ساحات الجهاد والفداء التي تعاظمت فيها قوى الشر والطغيان، وتألبت فيها الأحزاب، وعظمت البلية، وازدادت الرزية، وأثخن المسلمون بالجراح، ومضى منهم إلى الله شهداء! فأين إيماننا؟ وأين بالله عز وجل يقيننا؟ وأين صدق توكلنا على الله؟ ذلكم ما ننظره في هذه المحنة الشديدة، واللحظات العصيبة التي ألمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى رأي العين تلك الصور المحزنة المؤلمة التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وجاءت صولة وجولة للكفر، وانتشى أهله، وتعاظم افتخارهم، وظنوا أنهم قد بلغوا من الإيمان وأهله مبلغاً.
روى البراء في تصوير ذلك الحدث أن أبا سفيان قائد المشركين الذي انتشى لتلك الجولة، وافتخر بتلك الصولة، أشرف على المسلمين بعد القضاء المعركة وهو يصيح بأعلى صوته: (أفي القوم محمد؟ ورسول الله يقول: لا تجيبوه، فيقول أبو سفيان: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فيقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فيسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعظم غيظ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لافتخار الكفر وأهله، فيقوم وقد ملأ الغيظ قلبه، والعزة نفسه، بعد أن قال أبو سفيان عند الصمت: إن هؤلاء القوم قتلى فلو كانوا أحياء لأجابوا! فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله عليك ما يخزيك.
فقام أبو سفيان وقال: اعل هبل، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: بم نجيبه يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فيقول أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فيقول المصطفى: أجيبوه، بم نجيبه؟ فيقول: الله مولانا ولا مولى لكم، فيقول أبو سفيان: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فينطق عمر فيقول: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة).
تحدث العلماء في هذه الحكمة النبوية يوم قال: (لا تجيبوه) قالوا: لأن غيظ المشركين ما زال متقداً، وحماسهم للقتال ما زال مشتعلاً، فأراد أن يطفئ جذوة حماسهم، فلما استتم قوله، وظن أنه قد بلغ مراده لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابته، وابتدر له عمر بحميته وعزته، فجاء الجواب جملة بعد أن كان السؤال مفرقاً؛ ليكون رداً حاسماً، وإخراساً تاماً، وإذلالاً عظيماً، كما قال ابن القيم: كان الصمت إذلالاً له وتحقيراً لشأنه، وكان الجواب كبتاً له وإظهاراً لعزة الإيمان والإسلام.
وأما حينما تحدث أبو سفيان عن المبادئ والقيم، عن الدين والعقائد، عن المحاسن والمآثر، لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلو للكفر كلمة، ولا أن يظهر له مبدأ، ولا أن ترفع له راية يظن بها أن فيه خيراً، فلما قال: اعل هبل، جاء
صلى الله عليه وسلم الله أعلى وأجل.
لنا العزى ولا عزى لكم! الله مولانا ولا مولى لكم! ذلك ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهره من عزة مبادئ الإيمان.
ولئن استشهد من الصحابة سبعون، وجرح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولئن نزفت الدماء؛ فإن الإيمان والعزة في النفوس لم تزل متربعة لم تزل في الدماء جارية لم تزل تنبض بها العروق وتخفق بها القلوب ولذلك أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو الذي ليس فيه وهن في النفس، ولا يأس في القلب، ولا تشكك في النهج، ولا ضعف في الإيمان، ولا زعزعة في اليقين بحال من الأحوال.