الموقف الثاني: وهو عظيم، ولعل كثيرين منا لا يعرفوه، ولم يمر بهم، فلنقف معه: روى الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث عبيد الله بن رفاعة الزرقي قال: (لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر جالساً من شدة ما أصابه في المعركة، وصلى الصحابة خلفه جلوساً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة -أي: يوم الفقر والفاقة- والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة والذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)، رواه الإمام أحمد والبزار في مسنده، ورجال أحمد رجال الصحيح.
درس عظيم في أن كل ملمة إنما تفريجها بالالتجاء إلى الله، وكل كرب إنما تنفيسه بالدعاء الخاشع الخاضع لله، وكل كسرة أو نكبة أو هزيمة إنما استمداد النصر من الله، وكل ضيق في النفس أو هم في القلب إنما تفريجه بحسن الثناء على الله، وعظمة الالتجاء إلى الله، في ساحة المعركة وغبارها لم ينقشع بعد، وقف على مشارف قبور الصحابة رضوان الله عليهم من الشهداء، وقال: (استووا! خلوا بيني وبين ربي أثني عليه).
وانظروا إلى هذا الدعاء الخاشع، والثناء العظيم، ابتدأه الرسول الكريم بحمد الله، فالحمد له أولاً وآخراً، فلا يحمد على مكروه سواه سبحانه وتعالى، والحمد لله على كل كرب، وعلى كل غم وهم، فإن فيه خيراً، وإن من ورائه فرجاً، وإن من بعده يسراً، وإن في إثره نصراً.
إذا ثبت الإيمان في القلوب، وعظم اليقين في النفوس.
(اللهم لك الحمد كله)، ثم يثني الثناء الذي يبين أن لا أحد له من الأمر شيء؛ فلا قابض لما بسط، ولما مانع لما أعطى، ولا مبعد لما قرب سبحانه وتعالى، هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي جعل الأيام دولاً بين الناس، وهو الذي اقتضت حكمته أن يدال المؤمنون وأن يدال عليهم، هو الذي جعل ذلك في شأن خير خلقه صلى الله عليه وسلم، فكانت وقعة أحد وكسرتها، وكان الذي جرى حتى دمي الوجه الشريف صلى الله عليه وسلم! ثم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه إلى القضايا المهمة العظيمة: أن يحفظ الله الإيمان والإسلام، وأن يقي من الفتنة والانحراف، فإن أعظم نصر هو أن يبقى الإيمان قوياً في القلوب، والإسلام ظاهراً في واقع الحياة، وإن هدمت البيوت فوق رءوس أصحابها، وإن أزهقت الأرواح في بيوت الله، وإن قتل الصغار والنساء والشيوخ، فإن الإيمان والإسلام هو الأولى أن تعظم العناية به، وأن يعظم الخوف عليه، وأن يكثر الحزن، وذلك إذا ضعف في قلوب الناس إيمانهم، وإذا ذهب من واقع حياتهم إسلامهم، وإذا تشككوا في وعد ربهم، وإذا انسلخوا من نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم.
أما إن ثبتوا فقد ثبتهم رسول الهدى بمثل هذا الدعاء العظيم الذي أوجز في آخره الدعاء على الكافرين والمشركين والمعتدين، إنهم أقل وأدحر وأصغر من أن يطيل الدعاء عليهم، فإن رجز الله وسخطه وغضبه إن أصابهم منه أقل القليل لم تبق منهم باقية، ولم تقم لهم قائمة، والله سبحانه وتعالى قد قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، وتلك الوقفة الثانية التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم فيها أصحابه وأمته من بعده كيف تواجه الخطوب، وخاصة خطوب القتال، وبعض ما قد يكون من جولات فيها كسرة أو هزيمة.