نقف وقفة نقتبس فيها من أنوار ترجمة وحال ابن القيم رحمة الله عليه في علمه.
قد قلنا ذاك الموجز في أخلاقه، وهذه العبارات الجامعة في عبادته، فلا نظن أن هذا وذاك جاء من كلام غير خبير، فقد ذكره من ترجم له أمثال ابن كثير وابن رجب وغيرهما، وابن كثير إمام عالم، فإذا قوم فهو تقويم العلماء، وإذا مدح وأثنى فهو يعرف من هذه العلوم ما يجعله يعرف مواقع الكلمات، وليس كما هو الحال في عصورنا المتأخرة، فأنت تجد من حفظ كلمةً أو كلمتين أو اطلع على كتاب أو كتابين، ربما وصف بأنه عالم الأمة وإمام الأئمة، لكن السابقين من العلماء ما كانوا يطلقون هذه الأوصاف إلا عن علم بها، وتحر فيها، ودقة في إطلاقها.
قال ابن كثير رحمة الله عليه في وصف علمه: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لاسيما علم التفسير والحديث والأصلين، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه.
يعني: قل أن يوجد له نظير في مجموع أحواله، من علمه، وعبادته، وأخلاقه، إلى غير ذلك كله.
وقال ابن رجب في وصف علمه -وقد توسع في ذلك؛ لأنه تلميذه الذي تلقى عنه وأخذ منه-: تفقه في المذهب، وبرع، وأفتى، ولازم ابن تيمية وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يبارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى -تأمل هذه العلوم والأوصاف- والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، وله في كل من هذه الفنون اليد الطولى.
فهذا يدلنا على شمول علمه في مسائل كثيرة وفي فنون متعددة.
وقال الذهبي -وهو من نعلم في تقويم الرجال-: عني بالحديث وفقهه، ومعرفة بعض رجاله، وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين، وتصدى للاشتغال وإقراء العلم، ونشره.
ويقول ابن رجب: ما رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه -ثم يستدرك ويدلنا ذلك على دقة العلماء- قال: وهو ليس بمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
وقال القاضي برهان الدين الزرعي عن ابن القيم: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه، وقد درس في الصدرية -وهي إحدى مدارس الشام نسبة إلى صدر الدين الدمشقي - وأم بالجوزية، أي: كان إماماً فيها.
فهذه الأوصاف التي ذكرت عن بعض ما كان عليه من العلم، تجعلنا نقتبس من نور أهل العلم أنه لا بد من بذل الجهد والتفرغ والحرص على التلقي وعدم التعجل، فإن ابن القيم ما حاز هذه العلوم ولا نال هذه الرتب إلا بعد وقت طويل، وعمل كثير، وتلق متنوع، ورحلة في طلب العلم، وعكوف عليه، وسهر لأجل حفظه وإتقانه.
وقال الشوكاني عنه: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.