وقفة أخرى نقتبس منها أيضاً أنواراً أخرى، وهي ما يتعلق بكتبه وتآليفه؛ لأنها أثر من آثار علمه، ويعجب المرء بما كان لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم من همة وعزيمة، وما أمدهم الله عز وجل به من توفيق وتسديد.
يقول ابن كثير في شأن مؤلفاته: وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف.
وهذا وصف إجمالي سنذكر بعض تفصيله.
وابن رجب يقول: كتب بخطه ما لا يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرةً جداً في أنواع العلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتنى من الكتب مالم يحصله غيره.
وكان كلام ابن حجر في وصفه في هذا الباب من أجمل وأنفس ما يقال، يقول: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره.
يعني كان يجمع الكتب ويقتنيها، ونحن نعلم أن الكتب في ذلك العصر لم تكن مطبوعة بآلاف وعشرات الآلاف كما هو في عصرنا، فكان تحصيلها وجمعها وتتبعها ونسخها أمراً فيه مشقة وجهد وعناء لا يعرفه إلا من كابد ذلك أو بعضاً منه أو اطلع عليه.
يقول ابن حجر: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً سوى ما اصطفوه لأنفسهم.
من أولاده إبراهيم وعبد الله كانا من العلماء، وقد درسا بعد موت والدهما في المدرسة الصدرية، وكان أحدهما من أهل الفتيا والقضاء، وهما من أهل العلم، فاصطفوا لأنفسهم كتباً، ومع ذلك كانت كتبه من الكثرة أنهم باعوا بعضاً منها على مدىً طويل من الدهر والزمن.
وقال ابن حجر في وصف تصانيفه -وهذا إطلاق عجيب دقيق مفيد من ابن حجر -: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعاني الإيضاح جهده فيسهب جداً، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف فيه في ذلك، وله في ذلك ملكة قوية، ولا يزال له يد في ذلك، ويبسط مفرداته وينتصر لها.
إن قبول المؤلفات وسريانها بين الناس دليل من أدلة التوفيق الإلهي، وقد ذكر العلماء في تراجم بعض أهل العلم هذا المعنى كثيراً، وهو أنه رزق القبول في تصانيفه، أو انتشرت تصانيفه، وتلقاها الناس بالقبول، أو سارت الركبان بتصانيفه في حياته وأخذ بها العام والخاص، ونحو ذلك من الأمور التي ذكرت في بعض العلماء الأعلام الذين ما نزال اليوم نقرأ كتبهم ونتتلمذ عليها، ونرجع إليها، ونعتبرها عمدة الكتب التي خلفها سلف الأمة، مثل: كتب ابن القيم وابن تيمية والإمام النووي وابن حجر والذهبي وغير أولئك من الأعلام رحمة الله عليهم أجمعين.
يقول الشوكاني معلقاً بعد نقل كلام ابن حجر: وله من حسن التصرف مع العذوبة السائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الآذان، وتحبه القلوب، وليس له على غير الدليل معول في الغالب، وقد يميل إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة كما يفعل غيره من المتمذهبين.
وانظر إلى هذا المعنى الذي أضافه الشوكاني وهو معنى ً جميل جيد وواقعي حقيقي، فإن ابن القيم رحمة الله عليه اشتهر بعذوبة عبارته، وسلاسة أسلوبه، وعلو بلاغته، وحسن عبارته، وكثرة استشهاده بالأمثلة والأشعار والبلاغات ونحو ذلك، مما يجعل كلامه مقبولاً في النفوس، وله وقع في القلوب كما قال: تميل إليه الآذان، وتعشقه وتحبه القلوب، وهذا قول واقعي يعرفه من قرأ في كتبه رحمة الله عليه.
وهذا أمر نحتاج إليه، وهو ما قاله عنه ابن حجر: يتعانى في التوضيح والتبيين وبسط المسائل حتى تعرف، فليس أمر التعليم وتفهيم الناس أمراً هيناً، وإنما يحتاج إلى معرفة طرق التدريس والتعليم، وقد كان ابن القيم قد أخذ بالحظ الأوفى والأوفر من هذا الوصف، وكتبه مع وضوحها وجمالها فيها العلم والتفصيل والتفريع الذي هو من شأن تخصصات العلوم ودقائقها، إلا أنه كان يسهب بحيث يفهم عنه ويقبل منه، ويكون قد أقام الحجة والدليل بالطريقة الواضحة البينة، وهذه الصفة من الأمور المهمة التي ينبغي أن نستفيدها وأن نقتبسها.