نقتبس أنواراً أخرى من أمر وحال عبادته رحمة الله عليه، وقد ذكر المترجمون له في هذا الشأن حالاً عجيبة، وأوصافاً غريبة، وأموراً يتعجب منها كثير منا، وقد ضعفت هممنا، وكثرت بالحياة الدنيا انشغالاتنا، وقصرنا في الطاعات، وفرطنا في كثير من الخيرات.
كان ابن كثير من أصحابه وجلسائه الذين عرفوه وخبروه، يقول: وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ومعنى هذا: أنه سيكون مطلعاً على خبايا أمره، وعلى أحواله الخاصة.
ثم يقول ابن كثير رحمة الله عليه -وتأمل هذه الكلمات عندما يقولها الإمام ابن كثير وهو من هو في علمه وفضلة وتأريخه وتراجمه المعروفة-: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادةً منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع من شأن عبادته وطوله فيها، وتفرغه لها وبذله من جهده ووقته فيها.
ولم يكن ابن القيم رحمة الله عليه رجلاً منقطعاً عن الناس متفرغاً للعبادة، حتى نقول: إن هذا الوصف يليق به؛ لأنه لم يكن عنده شأن آخر، بل كان عالماً صنف مصنفات يحار العقل في فهمها وتدبرها، ومعرفة ما فيها من غزير العلم، ودقائق المسائل، وكان مع ذلك مجاهداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ينشر العلم ويلقنه، ويرد على المخالفين، ويقوم المبتدعين، ونحو ذلك، ومع ذلك كله ما شغل عن أمر هو من أهم الأمور وأعظمها وآكدها للعالم والداعية والمسلم على وجه العموم، وهو أمر الصلة بالله عز وجل، وأمر العبادة وربط القلب به، واستمداد العون منه.
ويقول ابن رجب - وهو ممن تتلمذوا على ابن القيم رحمة الله عليه، وقد وصفه في ذلك وصفاً أطول وأعجب مما ذكره ابن كثير -: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله عز وجل، والانكسار له والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، ثم يقول على غرار ما قال ابن كثير: لم أشاهد مثله في ذلك، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف.
قال: وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.
فذاك قرينه، وهذا تلميذه، وهما من المقربين إليه والمختصين به، العارفين بحاله، فإذا بهما يذكران هذا الوصف الذي يغلب على السامع عندما يسمعه أن هذا الرجل لم يكن له شأن إلا العبادة وحدها، ومع ذلك كان رحمة الله عليه يجمع مع هذا الشأن شئوناً أخرى عظيمة وجليلة؛ ولذلك سمت العبادة ونورها الذي يقذف بالقلب، وتوفيقها الذي يجعله الله عز وجل مسدداً لصاحبها؛ هو أمر مقتبس أصلاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من العبادة مع كونه رسول الأمة، وقائد جيوشها، ومدبر أمرها، ورئيس دولتها، ومع ذلك كان هو الموصوف بالعبادة إلى الغاية القصوى التي لا منتهى إليها ولا قرب منها، وكذلك كان صحابته رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، كانوا يجمعون بين هذا وهذا، وعندما ضعف هذا السمت في أجيالنا المعاصرة، وفي المتصدرين للخير والإصلاح، والدعوة والعلم وطلبه، رأينا ضعفاً في الآثار: من قبول الحق، ومن سرعة الفهم، ومن غزارة العلم وغير ذلك من الأمور التي فتح الله عز وجل بها على أسلافنا من الأئمة؛ لأنهم أحسنوا ما بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى فسهل لهم أمورهم، وفتح لهم من أبواب خزائنه سبحانه وتعالى توفيقاً وتسديداً وإلهاماً ورشداً وصواباً في الرأي، ودقةً في الاستنباط، إلى غير ذلك مما عرفوا به واشتهروا به رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم أجمعين.