نحن نرى أن كثيراً منا في هذا العصر يريد أن يطلب العلم دون جهد أو عنى، ويريد أن يحصله دون طول زمن، بل يريد في لمحة من وقته أو ساعة من نهار أن يحفظ ويفهم ويدرك ويجيد ويتقن، وأما علماؤنا فقد كانوا على غير ذلك، وهذا مما ينبغي أن يتنبه له، ثم إنه قد استفاد رحمة الله عليه استفادةً واضحةً من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه؛ ولذلك وقفة أيضاً نأخذها هنا لنرى أثر الصحبة، والاقتباس، وتلقي العلم، والتربية الإيمانية العلمية والسلوكية التي غفل عنها كثير منا في هذه الأعصر.
صحب ابن القيم شيخه من عام (712هـ) حتى وفاته في عام (728هـ) أي: أنه لازمه ستة عشر عاماً، كان فيها مختصاً به، مرافقاً له، أكثر الأخذ عنه والمدارسة معه، واطلع على سائر أحواله، وقد وصف من حال شيخه الكثير والكثير، مما يدل على تأثره به وأخذه عنه، وأنه لم يأخذ عن ابن تيمية رحمة الله عليه العلم وحده، وإنما أخذ عنه العلم والسلوك، وأخذ عنه الحال الإيماني والوصف التربوي، كما أنه أخذ منه أمر مهم وهو المنهجية في أخذ العلم والاستنباطات ونحو ذلك مما يأتي ذكره، وقد قال ابن القيم في وصف هذه العلاقة أبيات.
يحكي فيها عن نفسه وما مضى به من الأحوال: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران أي: قبل أن يصحب شيخه ثم يقول: حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ورأيت آثاراً عظيم شأنها محجوبة عن زمرة العميان وقال ابن كثير رحمة الله عليه: إن ابن القيم صحب ابن تيمية لما عاد الشيخ من الديار المصرية في سنة (712هـ) ولازمه إلى أن مات، وأخذ عنه علماً جماً.
وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: إنه غلب على ابن القيم حب شيخه؛ حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه.
وهذا الكلام من ابن حجر رحمة الله عليه ليس على إطلاقه؛ فإن ابن القيم قد استقى من شيخه أن المجتهد لا يقلد، وأن المصدر الذي ينبغي أن يعود ويرجع إليه العالم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فقد خالف ابن القيم شيخه في مسائل عديدة، ولم يكن موافقاً له في كل شيء، وإن كان استفاد منه كثيراً، وقد قرر ذلك في كتبه وطول النقل عنه، وكان يقول: أفدت ذلك من شيخنا، وكان يقول: ما أطلقت من قول شيخ الإسلام فأعني به ابن تيمية ونحو ذلك مما كان ينسبه إليه ويستفيده منه، ولكنه مع ذلك خالفه في مسائل ليست قليلة، وليس هذا موضع ذكرها، لكني أذكر بعض هذه المسائل، مثل مخالفته لشيخه في فهم كلام للإمام أحمد في مسألة الرضعة الواحدة، والاعتداد بها، وكيف تكون الرضعة.
وكذلك أيضاً مسألة تتعلق بعدة الأمة، فقد خالف فيها شيخه، وغير ذلك من المسائل.
وما نقتبسه هنا أيها الأحبة! أنه لا بد لطالب العلم من الشيخ الذي يتلقى عنه العلم، ويتعلم منه السلوك والسمت الصالح، ويأخذ عنه النهج الذي يفتح الله به عليه في معرفة ما يأخذ من العلم وما يدع، وكيف يأخذ هذا العلم، وكيف يصنع به ويستفيد منه وينشره، إلى غير ذلك من الأمور؛ لأنه ليس المطلوب هو مجرد حفظ العلم وتلقيه، بل كيفية الإفادة منه، والتعريف به، ونحو ذلك من الأمور اللازمة التي يحتاج إليها كثيراً.