إننا نجد أن بعض الأقوال مجرد ذكرها يكون موضع نقد، مع أنه لابد من معرفة حقيقتها، وأنا أورد بعض الأقوال اليسيرة حتى نعرف هذه الأقوال ونعرف قائلها، فهنا أذكر القول الأول ثم أذكر القائل، حتى يتنبه السامع إلى أن القول قد يسبق إلى ذهنه أنه لابد أن يكون منكراً أو غير مقبول؛ لأن فيه تقسيمات أو تفريعات.
يقول الإمام أحمد: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.
الثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
الثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين.
ولو تأملنا في هذه الأقوال فسنجد أنها تذكر كثيراً من الألفاظ والأقسام والتعبيرات، لكن ليس فيها شيء مخالف للشرع، فليس هناك حرج في معرفتها، بل الحقيقة أن العلماء لما تكلموا في هذا تكلموا بمنازل وبتفصيلات أو بمراتب أو بأقسام ذكروا لها شواهد من القرآن والسنة، ومن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم، وهذا ظاهر وكثير.
ومن ذلك قول آخر: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
وهذا كنوع من التقسيمات هو من مقالة ابن تيمية.
وقال ابن القيم تعليقاً عليه: وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
وعلى هذا تجد أقوالاً كثيرة في هذا الشأن، لكن القاعدة الأساسية التي تعامل بها العلماء هو ضابط الاتباع، أي: اتباع الكتاب والسنة في كل أمر من هذه الأمور.
وإن كنا نقول: إن هذه الأمور فيها ليست لها قياسات مادية، لكن لها ضوابط شرعية، ولذلك كل هذه الأمور ضبطت بعامل الاتباع.
ومن ذلك قول ابن القيم في كلامه على علم السلوك، قال: وأصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون.
ولذلك تجد هذه الأقوال متكررة.
ومن ذلك قول الإمام ابن تيمية في الاستقامة، يقول: أصل العمل علم القلب، وهو الحب والتعظيم والتفاني، والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار.
ثم قال: لا يقبل عمل إلا بنية، وهذا ظاهر؛ فإن القول والعمل إن لم يكن خالصاً لله لم يقبله الله تعالى.
ثم قال: لا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة وهي الشريعة.
وهذا الكلام ضابط عام، ومما يبين تأكيدهم على هذا أنَّ المتقدمين من أهل التصوف كانوا يقولون بهذا؛ لأن ثناء العلماء عليهم دل على أنهم كانوا في الأصل قالوا بكلام جملته وأكثره صحيح، ومن ذلك ما نقل ابن القيم عن أبي يزيد البسطامي قال: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ حدود الشريعة.
ليس هذا إنكاراً لذاك، لكنه أيضاً ليس إلغاء للشرع، لابد أن نعرف أن كل أمر من هذه الأمور له ضابط مهم في الشرع، ولذلك كان كلام العلماء على كل القضايا الأساسية التي ترد في هذه المسائل من الكرامات أو من الإلهام أو من غير ذلك إنما هو في هذا الضابط العام، فنجد -مثلاً- أنه حينما يكون الإنسان مستمعاً للقرآن أو في صلاته فيغلب عليه الخشوع فقد يبكي، أو قد يغشى عليه، فهل كل هذه الصور منكرة مردودة؟ وهل مثل هذه الصورة بالجملة يخشى أن يكون فيها نوع انحراف؟ لا.
ونذكر لك نصاً من كلام ابن تيمية في هذا الأمر، حتى يعلم الإنسان أن الأمور لابد لها من ضابط شرعي من الكتاب والسنة.
يقول رحمه الله في شأن هذا الأمر: إن ناساً أنكروه وإن ناساً أقروه بلا ضابط.
ثم قال: والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوباً عليه لم ينكر عليه.
أي: إذا لم يكن في اختياره.
وإن كان حال الذي يثبت أكمل من الذي لا يثبت؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قرءوا وصلوا وحصل لهم خشوع كامل أكمل، لكن ما وقع لهم مثل ذلك؛ لأن الثبات أكمل في الإيمان.
ويقول ابن تيمية: ولهذا سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، لما هو عليه من العلم والإمامة، وهو من أئمة أهل السنة والسلف، فما رأيت أعقل منه.
وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك.
وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة في ذلك.
هذا جملة قوله.
ثم قال أيضاً في موضع آخر: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه -أي: من القرآن أو من الخشوع- فهذا الذي يصعق صعق الموت أو صعق الإغماء فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد عليه وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا فيمن يفرح أو يخاف أو يحزن.
وانظر! فقد تجد إنساناً يفرح فرحة كبيرة فيغمى عليه؛ لأن الذي ورد عليه أكبر مما في قلبه من الاحتمال.
ثم قال: إذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة، كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك.
وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها.
قال ابن تيمية في هذا الأمر -وهنا جملة تعتبر بمثابة القاعدة- قال: فإنه إذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً.
المهم أن لا يكون هناك عمل غير مشروع، أما إذا كان العمل مشروعاً فقد يغلب الإنسان أحياناً هذه الصور، ولذلك قال: فإذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً.
وفصل في هذا وقال: وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل.
يعني: لا يظن أن هذا هو أسمى مرتبة، فقد يقع للإنسان من لذة العبادة والروحانية والأنس بالتلاوة والأنس بالصلاة ما هو أعظم من مجرد هذه الصورة العادية.
وكذلك ابن القيم في المدارج له كلام قريب من هذا.