أقوال العلماء في حقيقة الصوفية وأصناف الناس فيها

موضوع التصوف أو موضوع ما يسمى بفقه السلوك أو علم السلوك أو غذاء الروح، أو سمه ما شئت؛ فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وإن كانت الأسماء التي تثبت وتروج ينبغي معرفتها ومعرفة مضامينها، وهذا ما سيأتي في منهج العلماء، فحينما نقول: إن هذه العلوم أو هذه الأحوال منكرة بالكلية خطأ.

والذين أنكروا إنما أنكروا لما وقع من شطح من أخذ بهذه الأمور، فهناك طرف غال وهناك طرف جاف، والحق بينهما وسط، ولذلك تكلم العلماء والأئمة في هذه الأمور ووضحوا منها كثيراً، ولهم في ذلك قواعد، وأنا أذكر بإيجاز تعريف التصوف ومعناه.

وننقل في ذلك نصوصاً من كلام الأئمة المعتبرين من أمثال ابن القيم وابن تيمية والذهبي وغيرهم من علماء أهل السنة.

يقول ابن القيم: التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومحبة من تحبه، فإن المرء مع من أحب، كما قال سمنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة؛ فإن المرء مع من أحب.

وهذا المعنى الإجمالي.

إذاً التصوف هو متعلق بالسلوك الحقيقي المرتبط بتزكية النفس وتهذيبها لتسير إلى الله؛ لأن الغاية هي المنتهى أن يكون المرء مع من أحب.

ثم يقول أيضاً في موضع آخر: لما كان للقلب قوتان: قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، هذا العلم والتمييز.

واستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل.

إذاً من صدق في محبته لله سبحانه وتعالى توجه بكليته لمن يحب، وخرج ممن لا يحب خروجاً يبين فيه الأسباب من مسبب الأسباب، ويبين فيه أيضاً التعلق الكامل بالتعلق العارض.

ولذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب له كلام جميل في الفهم الأساسي الذي يوازن بين الماديات والروحانيات، يقول: لما كان صلاح القلب واستقامته في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب -يعني تفرقه- لا يلمه إلا الإقبال على الله.

قال: وكانت فضول الشراب والطعام وفضول مخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام مما يزيده شعثاً.

نحن نريد القلب أن يتوجه إلى الله، فالطعام والشراب ومخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام كله مما يزيده شعثاً، إذاً ما الذي جاء في شرع الله ليبعد هذا الشعث ويلم القلب ويوحده في الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى؟ قال: ومن هنا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، حتى يتوجه القلب بكليته لله سبحانه وتعالى، وشرع له من الاعتكاف ومقصوده وروحه عكوف القلب والخلوة لعبادة الله ليعالج مخالطة الأنام، أما الكلام فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فليقل خيراً أو ليصمت).

أما فضول المنام فشرع للأمة قيام الليل، فعلم أن ما شرعه الله سبحانه وتعالى من العبادات والأمور إنما غايته لم شعث القلب وتوجهه بالكلية إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ومدار رياضات أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج المحمدي، فلم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين.

أي: انحراف الغالين الذين جنحوا والمفرطين الذين أنكروا كل شيء، فإذا قيل للواحد منهم: فلان قرأ قرآناً وبكى.

أو: صلى وبكى.

أو: كان في حالة من الخشوع قال: لا.

هذه شطحات وهذه منكرات.

التصوف فيه نوع من الدقة والتفصيل، وهو يشمل معالم أساسية من أجل أننا نفرق بين الأسماء والمسميات، فهناك اسم له مائة فرع أو مائة نقطة، قد يتصف إنسان بخمس منها، أو بعشر منها، أو بعشرين، أو بمائة، فالتصوف اسم واسع دخل فيه من غير قصد -وبإنكار من بعض أصحابه- ما هو كفر أو كفر أعظم، مثل الحلول والاتحاد، وفيه ما هو صحيح وصدق، مثل العبادة والذكر والدعاء لله سبحانه وتعالى.

فلذلك قال ابن تيمية رحمة الله عليه في الفتاوى: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقه، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون مخالفون للسنة -أي: لا يقبل منهم شيء- وطائفة غلت فيهم غلواً بحيث صحح عنهم كل ما قالوه، والحق هو أن يقر من قولهم أو فعلهم ما وافق الكتاب والسنة، وأن يرد ما خالف الكتاب والسنة، وحالهم في هذا حال غيرهم من الفقهاء والعلماء؛ لأن صاحب الفقه هو أيضاً مجتهد، فقد يصيب الحق وقد يخالف الحق ويخطئ فيه، فهذا مثل هذا.

وبنحو هذا أيضاً قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: ومعاملة الصالحين انقسم فيها الناس إلى ثلاثة أقسام: الفئة الأولى: أهل الجفاء الذين يغمطون حقوقهم، ولا يقدمون من الحب والموالاة لهم والتوقير لهم كما ينبغي.

ثم قال: فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم، ولا يجحد بكرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.

الفئة الثانية: هم أهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها.

وقد أوضحنا من ذلك ما يكفي ذكره.

الفئة الثالثة: هم أهل الحق الذين هم متوسطون، الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرءون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم، والصالحون أيضاً يبرءون من أن يدعوا لأنفسهم حقاً من حقوق ربهم أو نحو ذلك.

ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس: إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة وصفاء نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقاً، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.

الطائفة الثانية: حجبوا لما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم، حجبوا عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانهم، فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول، وهؤلاء أيضا ًمعتدون مفرطون.

الطائفة الثالثة: هم أهل العدل والإحسان والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد، وهذا إجمال هذا الكلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015