هذه وقفات سريعة لكنها مهمة مع لذة العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، هذه المسألة المهمة تبين لنا سر أو بداية ما يتصل بالروح وإشراقها ونورانيتها، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بكلمات يسيرة، لكن في الحقيقة عند التأمل يجد الإنسان أنه محتاج إلى تفكير في دلالاتها، حينما يقول عليه الصلاة والسلام لـ بلال في الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، فنقول: كلنا نقول: الصلاة راحة، لكننا نريد أن نبقيها حتى ننفذ معناها، وحينما يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة) فنقول كلنا: الصلاة لذة، لكن ما معنى الراحة واللذة في التطبيق الواقعي، الذي كان نموذجه وقدوته وأسوته الأولى رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! وهو الذي يقول عن نفسه: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
ومعلومة قصة ابن مسعود في الصحيح لما وقف يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء.
قيل: وما هممت يا ابن مسعود؟ قال: هممت أن أقعد وأتركه).
ونأخذ مثلاً آخر من صحيح البخاري -أيضاً-، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتختم القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم يا رسول الله) هذا ما بلغ النبي عنه.
والرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك رده إلى حد الاعتدال بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأن يختم في خمس أو في سبع، كما في بعض الروايات.
هل هذا الرجل عنده طاقة غير بشرية حتى يقوى على هذا الأمر؟ وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يصلي في البيت الحرام ومنجنيق الحجاج بن يوسف منصوب يقصف، وتسقط شرفة من شرفات البيت ويهيج الناس يميناً وشمالاً وعبد الله بن الزبير واقف في صلاته لم يدرك شيئاً.
إذاً ينبغي أن نفهم أن هناك سراً يتعلق بالروح في هذه الأمور حتى نفهم الأمور، إذا قلنا: إن الصلاة راحة وإن العبادة والزاد الروحاني راحة ولذة فهل نجد أحداً يتعب من الراحة أو يسأم من الراحة؟ ولو كان أحد في فترة راحته فالراحة لا يشعر معها الإنسان بتعب ولا يشعر معها بطول وقت، فأنت إذا عملت ساعة ستشعر بالتعب والعناء، وإذا نمت عشر ساعات كأنما نمت عشر ثوان؛ لأن الراحة هذه طبيعتها، تستسلم فيها النفس والجوارح وتخلد وتركن وتجتمع وتطمئن وتسكن.
أيضاً لو كان الإنسان -مثلاً- يحب طعاماً معيناً يشتهيه، وهو منذ زمن ما وجد هذا الطعام ثم جيء له بهذا الطعام فإنه لن يشعر بتعب؛ لأن الحواس كلها توجهت نحو اللذة في أثناء لذته، هل يمكن أن ينقطع؟ لكن لو قيل له: حصل حادث أو مشكلة فيمكن أن تتأجل؛ لأن الإنسان في وقت لذته يختلف.
ولو مثلنا بالمثل الذي يقع للناس دائماً وهو ممارسة الهوايات لوجدنا حقيقة ذلك، فالذي عنده هواية تجد أنه يعمل مثلاً في هوايته، فيقال له: الوقت انتهى.
أو: المحاضرة انتهت ولا يستطيل الوقت، فلو قيل له: هل تعبت أو أرهقت؟ سيقول: نعم.
لكن ما زلت راغباً في الاستمرار؛ لأن القضية تتعلق بقوة لابد من معرفتها، وهي القوة الروحية.
وحينما يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن في الصلاة راحة فكيف يخرج الإنسان من راحته؟! وكيف لا يطلبها؟! وإذا دخل فيها كيف يكون فيها متعجلاً؟! أو كيف لا يكون مستمتعاً بها متفرغاً لها مغموراً فيها منشغلاً بها عما سواها؟! لا يمكن ذلك إلا إذا تحققت هذه المعاني كما ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام.
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص أو غيره هل كانت عنده قوة خارقة للعادة؟ لا.
لكنه كان يجد في العبادة الغذاء الروحي الصحيح حينما أقبل الإقبال الشرعي الصحيح، فحينئذ لا يشعر مع أن التعب موجود، والنبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، لكن هل أدرك هذا التعب؟! ذكر في ترجمة عروة بن الزبير أنه في قطع رجله لما سرت إليها الآكلة قالوا: نسقيك خمراً؟ قال: لا.
ولكن إذا كنت في الصلاة فافعلوا ما بدا لكم.
فقطعوا رجله وهو في الصلاة ولم يشعر.
هل هذا عدم إحساس فيه؟ لا.
ولكن القوة تزداد إذا زادت قوة الروح.
كذلك الذين يشردون إذا كانت قواهم مركزة في جانب معين انشغل عن غيره، وهذا يقع في الناس، فلماذا يسلمون به في الأمور المعتادة ولا يسلمون به في أمور العبادة؟ لذلك عبد الله بن الزبير لما سقطت شرفة من شرفات البيت إنما كان مقبلاً على الله سبحانه وتعالى بكليته، كان قلبه معلقاً به مستشعراً وقوفه بين يدي ربه، متلذذاً بتلاوة قرآنه، معظماً لربه بتسبيحه، متبتلاً إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه، ولذلك تفطن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ونحن نعلم أن السجود هو أكمل مقامات الصلاة الحسية، يكون الإنسان واقفاً منتصباً، ثم يركع وهو أقل خضوعاً من السجود، أما السجود فهو أكمل الصور في إظهار الذلة والعبودية لله سبحانه وتعالى.
فلو جاء أحد يحترم أحداً وانحنى له فلو كان مبالغاً لسجد له؛ لأنه ليس هناك بعد السجود شيء.
هذا الموضع الذي فيه كمال الذلة وكمال الانحناء وتمريغ الجبهة بالتراب وإلصاق الوجه بالأرض قال فيه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ لأنه كلما تحقق بكمال العبودية وكمال الذلة وكمال التعلق والدعاء والتوسل بالله سبحانه وتعالى كلما كان هذا أدعى إلى قربه الروحي من الله سبحانه وتعالى.
فلذلك ألفاظ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ليست التأملات فيها جانحة ولا شاطحة، بل كلام العلماء.
وسنأتي بما يتيسر ويدلنا على أن أهل العلم إنما نظروا في هذه النصوص بفقه متعلق بالتطبيق الواقعي لحياة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والصالحين، وهو متعلق بفقه القلوب وفقه السلوك الذي هو علم التصوف الذي فيه ما يذم وهو كثير وفيه ما يقر وهو كثير، وهو الأمر الذي سنرد إليه الآن.
فإذاً هذه المسألة لابد من معرفتها، وهي أن الناحية الروحية فيها شيء من عدم إمكان إدراكها بالحواس؛ لأن الروح كلها من أمر الله سبحانه وتعالى، فغذاؤها وما يقع لها لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى.
وكما ذكرت فالروح نفسها لها تعلق بالبدن، فنحن في أجسادنا أرواح، وإذا نام النائم هل ما زال في جسده روح؟ الروح في النوم هي الروح في اليقظة، لكن ينقص من نسبتها، ولا نعرف مقدار هذا النقص.
نتنقل إلى مرحلة أخرى، فحينما يغمى على الإنسان تكون فيه روح، لكن تأثيرها في الحواس أقل، لكن لا نعلم مقدار النقص فيها.
كذلك عندما يموت الإنسان لا نستطيع أن نرد إليه روحه.
إذاً أمر الروح لا يمكن فيه إلا التسليم والمعرفة التطبيقية لفعل النبي عليه الصلاة والسلام وما علمه لأصحابه، ولا بد أن نعرف أن هذه أمور ليست خاضعة للحس المادي الواضح الذي يقع تحت الحواس، وإلا فلا يمكن أن نفهم هذه الأمور.
ثم يأتي لنا ذكر الكرامات والإلهام وتفاصيل أخرى ثبتت أصولها المشروعة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبينها في واقع قوله وفعله، وتحققت في الأمة من بعده منذ عهده وإلى اليوم، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ألم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرؤى جزء من النبوة؟ فكيف هي جزء من النبوة؟ لأن فيها ملامسة لأمر الروح والوحي الذي هو نوع اتصال غير محدود الكيفية ولا معلوم الكيفية، ولذلك الإنسان يرى رؤيا صالحة فتقع، هل نفسر هذا بالمادة؟ مستحيل أن تفسر شيئاً ليس له مقاييس ولا موازين ولا نسب ولا أي شيء من هذا القبيل، إنما هو محض الوارد عن الشرع، لابد أن نتقيد بالمشروع، حتى لا يكون هناك فتح لهذه الأبواب التي وقع منها نوع انفلات وشطح بعيد خرج ببعض الناس إلى أن وصل بهم الكفر إلى ما هو أكفر من كفر الكافرين.
فإذاً لابد أن نعرف أن زاد الروح إنما هو في المشروع عن الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك الزاد في واقع الإنسان يعلو عن الأسباب المادية، فإذا هو يلقى التعب الذي لو حسبته بالمادة لا يمكن أن يثبت له، فكيف يثبت إنسان تقطع قدمه، أو يسقط شيء من حوله وهو غير مدرك، لا يمكن إلا أن نفهم أنه في راحة وأنه في قرة عين وأنه في لذة وأنه في انشغال تام بالعبادة وتعلق كامل لقلبه بالله، وانصراف كامل عن كل الخلق إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا هو الذي يفسر مثل هذا الأمر.