هذه جملة يسيرة من وصايا الحفاظ، ولا شك أنهم يحتاجون إلى مزيد من التوجيهات والتنبيهات، والوصايا العامة التي ذكرتها آنفاً تعنيهم كما تعني الطلاب، ثم يزاد عليها الوصايا التالية: أولاً: إحكام التمكين: فلا يدفعك الفرح بختمك أو بحفظك عن أن تتمكن وتراجع وتديم هذه المراجعة في أول الأمر خاصة؛ لأن القرآن سريع التفلّت، ففي البداية وعند أول الختم راجع ما استطعت أن تراجع، ولو أن تختم في ثلاث، وهذا هو الحد الأقصى لختم المصحف، ولا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث، ولو استطعت أن تختم في كل ثلاث فإن ذلك مطلوب منك.
ثانياً: دوام التلاوة: كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو موسى: (تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده! لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل صاحب القرآن كصاحب الإبل المعقلة -أي: المربوطة- إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت).
ولذلك لابد من المداومة على التلاوة بالليل والنهار، والحل والترحال، في الصلاة وفي خارج الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسلم وفي مسند الإمام أحمد - يذكر الله في كل أحيانه.
وفي حديث علي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء ما خلا الجنابة)، وفي حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع رأسه في حجر إحدانا -أي: من أزواجه- فيتلو القرآن وهي حائض) أي: يقرؤه ويديم التلاوة قائماً وقاعداً ومستلقياً، وإن كان متطهراً -أي: متوضئاً- أو غير متوضئ لا يمنعه من تلاوة القرآن إلا الجنابة.
قال ابن الجزري: فليحرص السعيد في تحصيله ولا يمل قط من ترتيله وليجتهد فيه وفي تصحيحه على الذي نقل من صحيحه وهذا لا شك أنه من الأمور المهمة، قال النووي في (التبيان): ينبغي لحافظ القرآن أن يحافظ على تلاوته ويكثر منها، وكان السلف لهم في ذلك عادات مختلفة في قدر ما يختمون، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، وهذا بعد التمكن من إتقان الحفظ، فإنه ينبغي أن تديم التلاوة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
ثالثاً: اتقان التجويد: فلئن طُلب ذلك من الطالب فإنه من الحافظ آكد وألزم، فإن الحافظ يُعدّ في رتبة من يكون مدرساً ومحفظاً، فلابد أن يعنى بالتجويد، وبعض الناس يظن أن التجويد لا أهمية له!! وهو -كما نعلم- فرض كفاية، لكن كل أحد في اختصاصه مطلوب منه دواعي ومؤهلات ذلك الاختصاص، فالحافظ لاشك أنه يلزمه تعلم التجويد وإتقانه بصورة أكبر من غيره، ولذلك ينبغي له أن يتقن التجويد إتقاناً جيداً، وأن يحفظ في ذلك متناً كالجزرية أو غيرها، وأن يقرأ ويضبط شرح هذا المتن لكي يلمّ بالتجويد، وأن يختم ختمة كاملة على شيخ متقن مُجاز حتى يجاز ويمكنه أن يجيز غيره في هذه الرواية، فالقرآن إنما هو بالتلقي، والقراءة التي يقرأ بها بعضنا جيدة، لكن الحافظ ينبغي له أن يقرأ على الشيخ حتى يتصل سنده، ويكمل -بإذن الله عز وجل- المطلوب منه في هذا الشأن.
رابعاً: تعليم القرآن بعد تعلمه وإتقانه: فإن هذا من أعظم أسباب العون على دوام التلاوة والتمكن من إتقان القرآن وتجويده.
خامساً: الاستزادة من القرآن: فإذا حفظ ينبغي له أن يجوّد، وإذا جوّد طلب الإجازة في روايته، فإذا وجد في نفسه مكنة انتقل ليجمع القراءات السبع أو العشر، أو يجمعها من طرقها المتعددة إذا استطاع؛ لأن هذا -كما قلت- يرتبط بالقرآن وما مضى من القدر والمنزلة والشرف، إضافة إلى القيام بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون سبباً من أسباب حفظ القرآن بكل قراءاته وحروفه التي نزل بها، والتي بلغها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سادساً: أن يفرح بنعمة الله عز وجل فرحاً مشروعاً، فلئن فرح الناس إذا تخرجوا من الجامعات أو إذا أخذوا الدكتوراه فإن التخرج من حفظ القرآن أعظم وأشرف: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، جاء في بعض التفاسير أن ذلك الفرح إنما هو الفرح بكتاب الله عز وجل، وقد ذكر الآجري في كتابه: (أخلاق حملة القرآن) ما ينبغي للحافظ من بعض الآداب التي ننصح بالرجوع إليها.