أولاً: المواظبة والاستمرار: كثيراً ما ينقطع هذا الخير ويتوقف رصيد الحفظ، بل تُنسى الآيات والسور المحفوظة شيئاً فشيئاً بسبب الانقطاع، وخير الأعمال أدومها وإن قل، وكان من دأب النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما بدأ بطاعة ثم تركها، وفي ترجمة الإمام أحمد عن إبراهيم الحربي أنه قال: صحبت ابن حنبل أربعين سنة فما رأيته في يوم إلا وهو أزيد من الذي قبله.
فكيف تتكامل وتنقطع؟ واعلم أن الاستمرار هو الذي يؤتي الثمار، وأما الانقطاع فهو مظنة الضياع، وهذه حكمة احفظها والتزمها لعلها أن تنفعك إن شاء الله تعالى.
ثانياً: الوقت المناسب: فلا تضحك على نفسك! بأن تخصص خمساً من الدقائق أو عشراً، أو تخصص ساعة نصفها يذهب في لغو ولعب وانصراف ذهن، فإنك حينئذ لم تأت بالأمر على تمامه، وهذا يقع من طلبة التحفيظ، فيأتي أحدهم بعد صلاة المغرب متأخراً، ثم يصلي السنة مطولاً، ثم يلتفت متحدثاً، ثم يجلس متلفتاً، ثم يردد مع المؤذن في أذان العشاء، ويقول: قد قضيت الوقت وداومت وواظبت، فما صنع هذا شيئاً ينفعه وإنما ضحك على نفسه، وأغرى به شيطانه، فينبغي له أن يفطن إلى ذلك، وينبغي له كذلك أن يختار الأوقات المناسبة، فلا يجعل حفظه ومراجعته في أردأ الأوقات، بعد أن ينهي كل الأعمال، والمذاكرات، وبعد أن يقضي كل المصالح، وبعد أن ينهي كل المشاوير والأعمال، فيأتي وقد كَلّ ذهنه، وتعب جسمه، فمهما أعطى من وقت فإنه لا ينتفع به، وقد قال الخطيب البغدادي: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعيد عن الملهيات، وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة وقوارع الطرق؛ لأنها تمنع خلو القلب، وينبغي أن يصبر على ذلك إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
ثالثاً: الإصغاء والتلقي: بعضهم يسرع ويتحمس ويسابق قبل أن يتقن ويسمع ويتلقى، وهذا قد جاء في القرآن الكريم لما كان النبي عليه الصلاة والسلام من شدة حرصه يسابق جبريل خوفاً أن يتفلت منه القرآن، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، وبعض الطلبة يريد إذا جاء المدرس يلقنه أو يقرأ عليه الدرس الجديد يظن أنه قد بلغ المنزلة والوضع الذي لا يحتاج معه إلى هذا التلقي، فلا يصغي له بأذنه، ولا يلقي له سمعه، ولا يحضر معه قلبه، ويتبرم بذلك ويريد الانصراف، ثم إذا به يخطئ فيما كان ينبغي أن يتلقاه وأن يتعلمه، وهذا كثيراً ما يقع فيه الطلاب فيخطئون في الحفظ، ويكون حفظهم الأول حفظاً خاطئاً، ويستمر معهم هذا الحفظ الخاطئ.
رابعاً: الجد والاجتهاد: فإن أمر الحفظ والمراجعة وعلوم القرآن ليس أمراً ينال بالتمني ولا بالأحلام والأوهام، ولا بكثرة الطعام، ولا مع كثرة الراحة والمنام، هو أمر قد شمر له المشمرون، وتسابق إليه المتسابقون، وتنافس فيه المتنافسون، ووصل فيه السابقون ليلهم بنهارهم، وكانوا يقرءونه في حِلّهم وترحالهم، بل كانوا يرددونه وهم على صهوات الخيول وقت المعارك والجهاد والسيوف تسمع قعقعتها، والغبار يملأ الأجواء، والميدان تعلو فيه رائحة الدماء، قد كانوا يبذلون فيه جهداً عظيماً، ولذلك ينبغي أن تدرك هذا الأمر، ومع هذا فلا يهولنك الحفظ كما يقع لبعض الطلاب: فيرى بعد أن يبدأ في جزء أو جزءين أن العقبة كئود، وأن المهمة في غاية المشقة، وأنه لا يمكن أن يبلغ النهاية، إذا ظن ذلك فقد حطم نفسه، وهدم ركن عزيمته، وانقطع به سبيله في غالب الأحوال.
أخي الطالب! اعلم أن الله قد قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فليس الأمر صعباً، بل هذا من إعجاز القرآن كما ذكر ذلك الماوردي فقال: من إعجاز القرآن تيسيره على جميع الألسنة، حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها فيه، وما ذلك إلا بخصائص إلهية فضله بها على سائر كتبه.
كيف تقول: إنك لا تستطيع أن تحفظ أو ترى ذلك صعباً، وأنت ترى من لا يحسن العربية، ولا يجيدها ولا يتقنها، يحفظ ويرتّل ويجوّد، فإذا نطق بكلام آخر غير القرآن لم يستطع أن يقيمه، ولم تفهم منه كلمة، كما هو معروف في الأعاجم الذين يقرءون القرآن يحبرونه تحبيراً، فإذا تكلموا العربية كسَروها تكسيراً! وهذا من الإعجاز ومن التيسير للقرآن، فهو ميسر مذلل، لكنه يحتاج إلى جد واجتهاد، واعلم أنك في هذا مأجور بإذن الله عز وجل.
خامساً: اغتنام الفرص: كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام حين أوصى بقوله: (اغتنم خمساً قبل خمس) فاحرص على الحفظ والتلقي في صغر السن، واحرص على ذلك في سن الطلب أي: في أوقات الدراسة قبل أن تتخرج وتصبح موظفاً، وتصبح رباً لأسرة، فإذا عجزت في الأولى فأنت في الثانية أعجز، فلذلك ينبغي أن تغتنم الفرص قدر استطاعتك.
سادساً: الاستفادة من الزملاء في المدارسة والمذاكرة والتشجيع والمنافسة: بعض الطلاب ليس له مع إخوانه وزملائه صلة إلا صلة الود والمحبة، والأنس والمصاحبة، والأحاديث والمفاكهة، والنزهات والرحلات، لكن قل ما تجدهم يجتمعون لمراجعة ومدارسة وتسميع القرآن.
سابعاً: توقير القرآن ومعلم القرآن: فإن بعض الطلبة لا يلتزمون هذا الأدب المهم وقد ذكر أبو شامة في أول شرحه على الشاطبية بعض هذه الآداب التي ينبغي أن يلتزمها الطالب، ومنها: أن يلزم مع شيخه الوقار والتأدب والتعظيم، وقد قيل: بقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع الطالب بما يستفيد من علمه، وينبغي أن يعتقد أهلية ورجحان معلمه، وذلك أقرب إلى أن ينتفع به، وأن يكون مجلاً له وحافظاً لهيبته، ومن آدابه: أن يتحرى رضا معلمه وإن خالف ذلك هوى نفسه، ومن ذلك أيضاً: أن يدخل إلى حلقة القرآن بكامل الهيئة، فارغ القلب من الشواغل متنظفاً بسواك، وقد قص شاربه وظفره وأزال أي رائحة كريهة، منها أيضاً: ألا يترك طالب القرآن حلقته ولزومه معلمه لأي عارض بسيط من العوارض، أو لأي عذر يسير مما قد يمكن احتماله.