ثالثاً: المرابطة والجهاد: فهذه معركة ليس ميدانها بقعةً معينة، وليست صورتها قتالاً بالأسلحة، بل هي أوسع من ذلك وأشمل، إنها تريد تقويض الاقتصاد والاستيلاء على الثمرات، إنها تريد تبديل المناهج وتغيير الأخلاق، إنها تريد نقض أساس الحكم بالإسلام وتغيير شريعة القرآن، إنها تريد فسخ عرى الأسرة المسلمة وتعرية المرأة المسلمة، إنها تريد أن تدخل إلى قلوب المسلمين فتغير ولاءهم وبراءهم، وإلى عقولهم فتغير أفكارهم وتصوراتهم.
أفليست هذه المعركة جديرة بأن يخندق المسلمون في ميادينها كلها ولا ينبغي أن تكون في ميدان واحد، بل لا بد أن تكون هذه الميادين فيها جهاد من أهل الإسلام، فمن ذلك جهادهم الثقافي، وفضحهم السياسي، وصدهم الاقتصادي، وحسبنا في ذلك أن نرى اليوم شعوباً بوذية وشعوباً غربية تنادي بمقاطعة أمريكا، وأهل الإسلام أولى بذلك وأحرى وأجدر، فلا نشتري بضائعهم، ولا نسوق ثقافتهم، ولا نشاهد أفلامهم، ولا نروج ما يقولونه ويزعمونه من هذه الأباطيل فلا نذهب إلى بلادهم ولا نستثمر في ديارهم.
ولا بد أن يكون هذا موقف مبدأ وإيمان لا موقف رد فعل آلي، ولا بد أن يكون ذا شمول في نوعه ومجالاته، وأن يكون ذا شمول في عموم أمة الإسلام؛ إن ثلاثمائة وألف مليون لو صرخوا صرخة واحدة لزلزلوا الأرض كلها، فما بالهم لا يجتمعون على أمرٍ قد ظهر وانكشف وصار أوضح من الشمس في رابعة النهار، وهذا أمر لا بد منه ولا بد من الأخذ به وهو ضرب من ضروب الجهاد.
ولا بد كذلك من الجهاد في ميادين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتثبيت عقائد الإسلام، وتوضيح شرائعه، والرد على كل من يعتدي على كتاب الله وسنة رسول الله، ورد الشبهات التي تبث وتذاع وتشاع عن دين الله وأحكام شرائع الله، وكل ذلك لا بد له من عمل وبذل، إنه لا ينبغي لنا أن نحصر الأمور في ميدان واحد، وإن كان ميدان الجهاد متعيناً في أوقاته وزمانه وأهله، ومتعيناً على عموم الأمة أن تعد له عدته، وأن تأخذ أسباب قوته وأن تهيئ النفوس بالتربية وبالعمل الجاد وبالأسلوب الذي ليس فيه هذا الترف والتميع والتمايل مع الغناء والرقص والانسلاخ من الأخلاق، والانحلال مع الأفلام الداعرة الماجنة وغير ذلك مما يروجه أولئك القوم وغيرهم.
فلا بد من رباط، والرباط يعني أن تواصل العمل وألا تترك الموقع، وإذا تركته فخلف بعدك غيرك ليأتي ويكمل الدور، وينبغي التواصي بذلك وأن تكون الأعين مفتوحة والقلوب واعيةً والعدة متأهبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] انفر وتوجه لميادين القتال المباشرة وغير المباشرة فالجهاد ساحته واسعة، وعداء أولئك القوم لنا لا يقتصر على جانب دون جانب بل في سائر ما يتعلق بإسلامنا، وإسلامنا يتعلق بالحياة كلها، ويحكم دنيانا كلها ويحكم ما في قلوبنا ونفوسنا من المشاعر والعواطف، وما في عقولنا من الأفكار والخواطر، وما تنطق به ألسنتنا من الأقوال والكلمات، فلذلك ينبغي أن يكون دأبنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم) وهذا أمره واضح، وقد سبق لنا حديث عنه.