إذا تأملت قمة أخرى وباباً آخر من الأبواب العظيمة التي افتقدناها وغابت عن حياتنا -إلا من رحم الله- وهي أمر الخشية لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى الذي أقض مضاجع أسلافنا، وأجرى مدامعهم، حتى خدت على وجوههم أخاديد، واسودت منها وجوههم، وكانوا على خوف دائم، وتذكر مستمر لله عز وجل وللآخرة، حتى إن المرء ليعجب مما كانوا عليه من الخوف والخشية رغم ما كانوا عليه من العلم والإيمان، وهكذا لا يزيد الإيمان المرء إلا خشيةً لله عز وجل، ولا تزيده الغفلة إلا بعداً عن الخشية وركوناً إلى قسوة القلب، عياذاً بالله عز وجل.
هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراوية أحاديثه الشهير؛ لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: بعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو النار.
وهذا الإمام أحمد، قيل له: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟ فحينئذ لابد أن ينزعج القلب، وأن يكون أقرب إلى الخوف والخشية من الله عز وجل إذا استحضر ذلك وتأمله، وكان ذاكراً له متأملاً فيه.
وهذه قصة فيها نموذج وقمة من قمم الخشية والبكاء من خشية الله عز وجل، وفيها بيان التأثير الذي يكون لأولئك الذين ملئت قلوبهم خوفاً وخشيةً، وذرفت عيونهم دمعاً ثخيناً من خشية الله عز وجل: هذا مخول يقول: جاءني بهيم العجلي يوماً فقال لي: أتعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني- يريد مرافقاً له ليكون معه في رحلة الحج، وقد كان السفر في تلك الأيام طويلاً-؟ قال: نعم، فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما، واتفقا على المرافقة، ثم إنه رجع وقال: كيف لي أن أرافق هذا؟ قلت: وما له؟ قال: حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا سفرنا كله، قال: قلت: ويحك! إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكر؛ يرق قلب الرجل فيبكي، أو ما تبكي أنت أحياناً؟ قال: بلى، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه، قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به، قلت: أستخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه وتهيئا، جلس بهيم في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض، قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق، قال: قلت: ارفق لعله تذكر عياله ومفارقته إياهم، ولما سمعه قال: والله ما هو بذاك، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، قال: يقول صاحبي: يا أخي! والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولهذا إنما كان ينبغي أن ترافق بينه وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعاً، قال: فلم أزل أرفق به، وأقول: ويحك! لعلها خير سفرة تسافرها، قال: وكان كثير الحج، رجلاً صالحاً إلا أنه كان رجلاً تاجراً إلى آخره.
فلما رجعا من الحج جئت أسلم على جاري الذي رافق العجلي، فقال: جزاك الله يا أخي عني خير الجزاء، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر العجلي، كان والله يتفضل عليَّ في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم، قال: فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذين كنت تكره من طويل بكائه؟ قال: ألفت والله ذلك البكاء، وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة- الذين كانوا معهم في القافلة- قال: ثم والله ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟ قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي.
فكان هذا من آثار أولئك القوم، وما كانوا عليه في مثل هذه السير العظيمة الجليلة التي كانوا فيها، والأمر في هذا كما أسلفنا يطول، وقد كان أسلافنا من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد عندهم من الأمر ما يضيق ذكره في مثل هذه العجالة.