فهذا جعفر بن البرقان يقول: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح، وتقوى وورع، فكتبت إليه قائلاً: يا أخي! بلغني عنك فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه.
يعني: اكتب لي عن حالك وأعمالك حتى أنتفع بها.
فكتب له يونس: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد.
ثم عرضت عليها مرةً أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت أن الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر أيسر عليها من ترك ذكرهم.
فهذا أمري يا أخي، والسلام.
فهو يبين له أنه ما زال في مجاهدة نفسه في ترك الأمور التي يخرج بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وهذا علي بن الحسين كان يتخفى في ظلمات الليالي، ويخرج حاملاً على ظهره بعض الأقوات والأرزاق، فيتفقد بها فقراء المدينة؛ فيطرق عليهم أبوابهم بالليل، فيضع عندهم ما يتيسر من صدقته، ثم يختفي لئلا يعلم بشأنه أحد، فلما مات وانقطع هذا العمل الذي كان يتحدث الناس به عرفوا أنه من صنيعه رحمه الله ورضي الله عنه، وهكذا كانوا يفعلون الأعمال الصالحة التي لا يقدر عليها إلا النادر من الناس، ثم هم مع ذلك يتخفون بها، ويسدونها.
وهذا ابن المبارك إمام عظيم من أئمة التابعين، كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وينفق على طلبة العلم الأموال الطائلة.
قال محمد بن المثنى: حدثنا عبد الله سنان، قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرطوس، فصاح الناس: النفير! أي جاء وقت الجهاد، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب البراز، فخرج إليه رجل من المؤمنين فقتله، ثم طلب البراز، فخرج إليه ثان ثم ثالث حتى قتل ستةً من المسلمين، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت، فافعل كذا وكذا -أي: أنه يوصيه- ثم حرك دابته بعد أن تخفى وبرز للعلج فقاتله ساعةً ثم قتله، ثم طلب المبارزة، فخرج له علج آخر من الروم فقتله حتى قتل ستةً منهم، ثم طلب البراز فخافوا منه، فضرب دابته وغاب بين الصفين، ثم غاب فلم نشعر بشيء، ثم إذا به يقول لي -في الذي كان-: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحد وأنا حي، فذكر كلمةً - أي: من الوعيد الشديد- لأنه كان قد اضطر أن يشير إليه إشارةً إن قتلت فافعل كذا وكذا.
وهذا محمد بن كعب القرظي يروي لنا رواية عجيبةً فريدة عن رجل أغفل التاريخ ذكر اسمه؛ لأنه كان من الأتقياء الأخفياء، قال: أصاب الناس في المدينة قحط، فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، قال: فكنت متوسداً -متكئاً- على ساريتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الناس متزراً بإزار وعلى كتفه آخر، فطرح رداءه، ثم جعل يدعو فاستمعت إليه، فقال: يا رب! إن أهل مسجد نبيك صلى الله عليه وسلم استسقوك فلم تسقهم، فأقسمت عليك يا رب إلا سقيتهم، فقال- أي: محمد بن كعب -: مجنون هذا الذي يقسم على الله عز وجل، قال: فما لبثت أن سمعت صوت الرعد، ثم غشي الناس المطر، ثم إذا بالرجل يحمد الله عز وجل، ويقول: من أنا حتى تجب دعوتي، قال: ثم انتصب إلى ساريته، فقام يصلي، فلما خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح، فخرجت وراءه، فإذا به يرفع ثوبه -من كثرة الماء في الطرقات من المطر الذي أكرم الله عز وجل به العباد- فرفعت ثوبي وتبعته، ثم خفي عليَّ فلم أعرف موضعه.
قال: فلما كانت الليلة الثانية كنت متوسداً ساريتي في المسجد، فجاء الرجل فعرفته، فقام فصلى، فبقي حتى إذا خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح فتبعته حتى دخل داراً من دور المدينة فعرفتها وعلمتها، ثم جئت في صباح اليوم فإذا بالرجل إسكافي-يصنع الأحذية ويصلحها- فجئت فسلمت عليه فعرفني، فقال: هل لك من نعل فأصلحها، فنظرت إليه، فقلت: ألست صاحبي البارحة والتي قبلها، فغضب علي، وقال: إليك عني، ثم مضى ودخل داره، فذهبت عنه، فانتظرته الثالثة- أي: الليلة الثالثة- فلم يحضر، فذهبت إليه في اليوم الرابع، فما وجدت له أثراً في بيته، فقال لي بعض من حوله: ما صنعت بالرجل؟ قلت: أي شيء كان منه؟ قال: ما لبث بعد أن كلمته حتى دخل فجعل ما عنده من جلد ومتاع، فخرج فلم نعلم به، ولم نر له أثراً.
فكذلك كان أولئك القوم في شدة إخلاصهم لله سبحانه وتعالى وتوقيهم وطلبهم لأن يكون عملهم لوجه الله جل وعلا؛ ولذلك كانت لهم في هذا سير عجيبة عظيمة.
ومن ذلك: أن مسلمة بن عبد الملك جاء وسأل عن حسن أهل البصرة- الحسن البصري - خالد بن صفوان، فقال له خالد في وصف الحسن: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، يعني: أنا أعرف الناس به، فأي شيء وصف به خالد الحسن رحمه الله؟ قال: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.
فقال له مسلمة: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟ ومن عبر هذه المقالة: أن مما أصابنا قلة القدوات الذين يتأسى بهم الناس، ويكونون في القوم كالقلوب النابضة الحية تبث الحياة في الناس، وتعيد إليهم ما سلف من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، وثبات أقدامهم، ولجوئهم إلى ربهم، وافتقارهم إلى بارئهم سبحانه وتعالى.