ثم نطوف أيضاً بباب آخر من الأبواب الجليلة في حياة أسلافنا، وفي القمم التي ارتقوا عليها، ومن هذا: الحفاظ على الوقت: والوقت أشرف ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع عندما ننظر إلى سير أسلافنا رحمهم الله نجد أن الأمر في هذا عجيب غاية العجب، ونرى في سيرهم ما لعل بعض الناس ينكره ويعده من المستحيل، أو من الغرائب التي لا تصدق، أو مما يذكر على سبيل المبالغة، ولم يكن من ذلك شيء، ولكن القوم كانوا أهل جد وعمل، كما كانوا أهل إخلاص وورع وخشية، ومن ثم كانوا يشمرون عن ساعد الجد في حفظ الوقت، وطلب العلم، والأخذ بأسباب العبادة والطاعة لله عز وجل، حتى جعلوا أوقاتهم كلها مشغولةً بالخير والطاعة، ويجد المرء في ذلك عجباً في سير أولئك القوم.
من ذلك: ما روي عن بقية بن مخلد القرطبي صاحب المسند الشهير، وكان من أصحاب الإمام أحمد وأخذ عنه الحديث، يقول عنه حفيده في ترتيب يومه وعمله وعبادته واستثمار وقته: كان جدي قد قسم أيامه على أعمال البر، وكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف سدس القرآن، وكان يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره -أي: بعد ورد الصباح الطويل- وقد اجتمع في مسجده الطلبة، فيجدد الوضوء ويخرج إليهم -ليعلمهم ويحدثهم- فإذا انقضت الدروس صار إلى صومعة المسجد فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يسمع إلى العصر -يعني: يحدث الطلبة إلى العصر- ويصلي ويسمع إلى ما بعد صلاة العصر، وربما خرج في بقية النهار فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده ثم يصلي ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد فيخرج إليه جيرانه فيتكلمون معه في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء ويدخل بيته فيحدث أهله، ثم ينام نومةً قد أخذتها نفسه، ثم يقوم.
هذا دأبه إلى أن توفي، وكان جلداً قوياً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مظلمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيريا، ومشى مع امرأة ضعيفة إلى جيان، وهو من أهالي قرطبة.
فهذا يوم عملي من أيام أسلافنا رحمة الله عليهم.
وهذا مثل آخر للإمام عبد الغني المقدسي في شأن أوقاته، قال الذهبي في ترجمته: كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومةً ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ -أي: كتابة العلم- إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه، ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، وربما توضأ سبع مرات أو ثمانية في الليل، وكان يقول: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبةً، ثم ينام نومةً يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه.
وقال عنه ابن أخته: كان الحافظ جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا وطلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر.
وهذا ابن عساكر أحد كبار أئمة المسلمين في التصنيف، وقد صنف من الكتب ما يعجز كثير منا عن أن يقرأها في حياته كلها، فله تاريخ دمشق الذي تم طبعه بالطباعة الحديثة التي معنا، فإنه يبلغ نحواً من ستين مجلداً أو أكثر، وقد صنف من الكتب العظيمة الكبيرة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، وهذا الحافظ الجليل يدلنا عمله على ما كان عنده من اغتنام للأوقات، وما كان له من استثمار لها.
ومثله أيضاً ابن عقيل الحنبلي الشهير صاحب كتاب الفنون الذي يعد من أكبر كتب أهل الإسلام، كان يقول عن نفسه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عقد الثمانين -يعني: بعد الثمانين- أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سف الكعك -الكعك يجعله دقيقاً- وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على المطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة.
وابن الجوزي رحمه الله أيضاً هو من كبار المصنفين في تاريخ الإسلام، كان يروي عن ابن عقيل أنه كان دائم الاشتغال بالعلم، وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وهكذا نجد أن الباب في هذا يتسع، والمقام فيه يطول، والأخبار فيه كثيرة جداً.