قمم أخلصت لله طلب العلم

ذكر بعض أهل العلم: أن هشاماً الدستوائي -وهو من العلماء- قال: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط لأطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.

من شدة إخلاصهم كانوا ينكرون على أنفسهم، فعلق الذهبي على هذا تعليقاً ذكر فيه كثيراً من أصناف الناس الذين يخوضون ميدان العلم وليس لهم في الإخلاص حظ ولا نصيب، فقال الذهبي: والله ولا أنا، أي: ولا أنا أستطيع أن أقول: إني أخلص لله عز وجل في هذا.

وقد كانوا مخلصين، لكنهم من شدة إخلاصهم لم يكونوا يجزمون بإخلاصهم، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، وكما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا أيضاً حسن.

ثم نشروا العلم بنية صالحة، ثم قال الذهبي في أصناف من خلفهم ومن جاء بعدهم ممن لم يطلب العلم لله: ونرى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله، وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش؛ فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله بعلمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ فوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً؛ غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يريده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو.

كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً، وكان الذهبي يقول هذا وهو في منتصف القرن الثامن الهجري تقريباً، فكيف بمن جاء بعده في أعصرنا هذه؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

وكما قلت فإن الأبواب كثيرة في مثل هذا الباب، ومما يؤيد هذا مقالات الأئمة، كما قال بعض السلف لما سئل: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن كلامنا لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.

وهكذا تجد أن الإنسان يتأمل في سير أولئك فيرى مثل هذه المواقف العظيمة الجليلة التي تدل على مثل هذا الباب العظيم من أبواب الخير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015