نأتي إلى جولة أخرى مع المتواضع المخلص الذي كان إماماً للأئمة والذي كان متبعاً للسنة، كان رحمة الله عليه متواضعاً يحب خمول الذكر ويبعد عما يحفه به الناس ويزيدون فيه، وهذا لا شك أنه من أعظم مراحل الإيمان والتقوى، وهو ألا يغتر الإنسان وألا يفتن عندما يوفق إلى بعض الخير، سيما والناس يحفون به، فقد كان أحمد رحمة الله عليه لا يحب أن يتبعه أحد قال ابنه: وربما خرج الجمعة فيتبعه بعض الناس فيقف حتى ينصرفوا عنه؛ لئلا يتبعه أحد؛ يأخذ ذلك من تواضع الصحابة، كما ذكر ابن القيم في الفوائد: (أن ابن مسعود خرج فتبعه بعض الناس، قال: ألكم حاجة؟ قالوا: لا وإنما نتبعك، قال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للمتبوع، فتنة للتابع) هكذا كان أولئك القوم يحرصون على براءة نفوسهم وطهارة قلوبهم، والحذر من الرياء أو من الكبرياء ونحو ذلك.
وهذا ابن معين رحمة الله عليه وهو من أصحاب أحمد والمقربين إليه يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان عليه من الخير والصلاح.
أي: لم يذكر يوماً أنه أعلم منهم أو أن عنده فقهاً أكثر منهم، أو أن عنده عبادة أكثر منهم، أو أن عنده أصلاً أو شرفاً أو كذا مطلقاً، مما يدل على أنه لم يكن يرى لنفسه شيئاً، بل كان يرى منزلته بين يدي الله عز وجل فلا يجد نفسه شيئاً مذكوراً، وكان ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم فيقيس نفسه إليهم فيرى أنه قزم صغير عند عمالقة عظام رحمة الله عليهم أجمعين.
وهو كما هو معروف أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني من قبائل العرب الصحيحة الأصيلة الأقحاح، فهذا محمد بن الفضل الملقب بـ عارم يتردد على أحمد فقال مرة: يا أبا عبد الله؛ بلغني أنك من العرب، فمن أي العرب أنت؟ فقال الإمام أحمد: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين.
ما أجابه على السؤال.
وقيل له مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً.
وكم نسمع هذه الكلمة لمن لا يبلغون عشر معشار الإمام أحمد، وإن كانوا على خير وفضل وصلاح؛ قال له رجل مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً؛ فقال له: لا، بل جزى الله الإسلام عني خيراً؛ ثم قال: من أنا وما أنا؟ من هذا الذي يكون له فضل على الإسلام؛ الإسلام هو الذي بصرني بالنهج، وهو الذي رزقني الله به الإيمان، وهو الذي عرفت به الحلال من الحرام، وهو الذي شرفت به في الدنيا وأنجو به في الآخرة بإذن الله عز وجل.
وهذا يدلنا على أن النفس قد تطهرت من هذه الأوضار والأمراض التي تفتك بالنفوس، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، وقيل له مرة: ما أكثر الداعين إليك؟ فاغرورقت عيناه بالدمع وقال: أخشى أن يكون استدراجاً، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجعلني خيراً مما يظنون وأن تغفر لي ما لا يعلمون.
مثل ما روي من قول الصديق رضي الله عنه.
وهكذا كان رحمة الله عليه ولذلك كان الناس يسمعون عن الإمام أحمد بن حنبل، ويسمعون عن تعظيمه وتوقيره وعلمه وصلاحه وموقفه الذي كان شائعاً في الأمة كلها، فكان بعض الناس يظنونه شيئاً غير البشر، حتى إن الذهبي ذكر: أن رجلاً جاء من خراسان ورأى الإمام أحمد بن حنبل فقال: الحمد لله الذي رأيته هكذا؛ فقال له الإمام أحمد: اقعد أي شيء ذا؟ ومن أنا؟ وكان موصوفاً بهذه الهيبة مع كونه على هذا التواضع.
إذا رمى بصراً في مجلس هدأت ضوضاؤه واستقر الناس واعتدلوا يشير في هيبة الإيمان تحرسه رعاية الله لا جند ولا خول وليس في كفه سيف يذل به من لا يطيع ولا في ثوبه بلل ولكنها طاعة الرحمن عز بها عزاً له في حياة المصطفى مثل كأنما هو والهامات خاضعة شدا إليها جبال التهم ترتحل