نمضي أيضاً في جولة أخرى مع السلفي الأصيل الإمام أحمد، كيف كان حريصاً على أن يكون متبعاً للسلف، مع فقه أصيل ومع متابعة دقيقة! سئل الإمام أحمد عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة والتابعون.
فكان يرى أن ما لم يتكلموا فيه من المسائل ولا يحتاج إليه في رد شبهة ونحو ذلك أنه لا يفتح على الناس به، وإلا كان ذلك نوعاً من عدم الفقه بمنهج السلف، إذ لو كان في مثل هذه المسائل من نفع لذكروه، ولذلك كان رحمة الله عليه يحرص على تعلم السنة وفقهها، وكان لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه؛ فإن علم بذلك اتبع رأيهم ونفى غيره، وإن لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه واستعصم؛ لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهاج السلف وإلحاد في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا يتكلفون التعمق في المسائل العقلية التي كثرت في وقت الإمام رحمة الله عليه، وضل بها كثير من الناس، ولذلك لما سئل عن علم الكلام، كتب إلى السائل قائلاً له: أحسن الله عاقبتك! الذي كنا نسمع عنه وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله لا تعد ذلك.
يعني: لا تزد عليه ولا تبحث عن شيء وراءه.
ولم يزل الناس يكرهون الجلوس مع المبتدع ليردوا عليه، إلا إذا احتيج إليه في رد ما شبه على الناس ولبس عليهم في دينهم.
يقول الإمام أحمد عن نفسه: ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به.
ومسنده فيه نحو من أربعين ألف حديث، وحتى لو كان بالمكرر فكونه يعمل بكل حديث كتبه فهذا أمر عجيب! وقد ذكر في ترجمته أمور عجيبة من حرصه على المتابعة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد احتجم وما به من علة وأعطى الحجام ديناراً كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولما أمر بالاختفاء ذهب إلى بيت بعض أصحابه ومكث فيه ثلاثة أيام ثم قال له: التمس لي طريقاً أخرج، قال: لا آمن عليك، قال: التمس لي وأعطيك فائدة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختفى في غار حراء ثلاثة أيام ثم خرج فسهل الله أمره.
وقال عنه بعض أهل العلم: إنه سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب عنها كلها وفي كل جواب يقول: أخبرنا أو حدثنا؛ ينسب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت المسألة امتثالاً يشمل كل ما بلغه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكل ما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم.
ونحن اليوم نحتاج إلى مثل هذا الأمر، أن يكون أخذنا بما يبلغنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة أخذاً جاداً عازماً شاملاً كاملاً، لا أن يكون تقويمنا ونظرنا إلى أمور دون أمور، أو إلى حالات دون حالات، بل كما كان عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه.
يقول عنه عبد الملك الميموني: ما رأت عيني أفضل من الإمام أحمد؛ ما رأيت أحداً من المحدثين أشد تعظيماً لحرمات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا صحت عنده ولا أشد اتباعاً منه رحمه الله تعالى.
فهذه جملة تبين لنا كيف كان الإمام أحمد حريصاً على اتباع السلف، وقطع ما لم يكن في عهدهم من المقالات والمسائل التي شققها الناس وفرعوها وخرجوا بها عن نهج السلف، ولبسوا فيها على الناس دينهم، وكثر فيها القيل والقال، ولم يقفوا فيها عند ما أثر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وقد رويت عن الإمام أحمد في مسائل الفقه أقوال متعددة؛ لأنه لم يكن رحمة الله عليه يرى أن يخرج عن مجموع النصوص، بل كان يرى أنه يفتي بموجب هذه النصوص الواردة، وإن كان ليس بينها تعارض ربما قال بالقولين في المسألة الواحدة ليجري الأثرين أو الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من فقهه في سجود السهو على سبيل المثال أنه قال: يتبع في كل حالة ما كان من فعله صلى الله عليه وسلم، فما روي في النقص من سجود السهو فيتبعه، وما روي في الزيادة من سجود السهو فيتبعه، حذو القذة بالقذة، وهكذا كان رحمة الله عليه إمام أهل السنة في وقته، لحرصه على هذا الاتباع.