من عظيم مواقفه ومآثره ودروسه ما نمضي فيه مع المنصف العادل، الذي ينصف الناس ويعدل معهم ويعذرهم ويحسن بهم الظن، وفي ذلك مقالات فريدة جديرة بأن تكون موضع اعتبار وادكار، فهذا الإمام أحمد لما جاءت المحنة التي قد نذكرها وقد نرجئ ذكرها في درس مع محن الأئمة لأن فيها دروساً كثيرة.
هذا الإمام أحمد كان معه جمع ممن حملوا إلى الحبس منهم: محمد بن نوح وعبيد الله القواريري وسجادة فبعضهم لما حبس أجاب في أول يوم، وبعضهم في اليوم الثاني، وأما محمد بن نوح لما حمل مع الإمام أحمد مات في الطريق وصلى عليه الإمام أحمد، فكان الإمام أحمد يسأل عمن كانوا معه وأجابوا والتمسوا لأنفسهم تأويلاً يعذرون به عند الله وهم أهل علم وخير، يقول الراوي: سمعت الإمام أحمد وقد ذكر الذين حملوا إلى الرقة إلى المأمون وأجابوا إلى ما طلب منهم من خلق القرآن تورية أو تأولاً؛ قال أبو عبد الله: هؤلاء لو كانوا صبروا وأقاموا لله لكان الأمر قد انقطع وحذرهم الرجل -يعني: المأمون -، ولكن لما أجابوا وهم عين البلد اجترأ على غيرهم.
يعني: هؤلاء كانوا أعيان الناس لو أنهم ثبتوا لما اجترأ على غيرهم ولتراجع المأمون.
وقد كان المأمون أراد أن يعلن الفتنة في العام الثاني عشر بعد المائة الثانية، قال المأمون: كنت أريد أن أعلن بخلق القرآن لولا خوفي من يزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد، فقالوا له: من يزيد بن هارون؟ قال: أخشى أن أقول فيقول بغير قولي فيبطل.
كان يحسب حساب العلماء والأئمة؛ لأن كلمتهم هي المسموعة، لكن لما جاء العام الثامن عشر بعد المائتين أعلن المأمون ودعا بخلق القرآن وامتحن الناس، فكان الإمام أحمد يقول: لو أنهم ثبتوا في ذلك الموقف لكان الأمر قد انقطع.
كان أبو عبد الله رحمة الله عليه يعذر القواريري وسجادة ويقول: قد أعذرا وحبسا وقيدا، وقال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ثم قال: القيد كره والحبس كره.
التمس لهما العذر ولم يقل: ضَعُفا وجَبُنا ولا انتقدهما ولا قدح فيهما ولا ازدراهما ليعلو بنفسه عليهما، وإنما التمس لهما العذر وأثنى على ما علم من حالهما وأحسن الظن بهما، ولذلك فهذا الموقف درس عظيم فيما ينبغي أن يكون من حسن الظن والتماس العذر وعدم التشنيع، وإن كان ثمة خطأ فينبغي أن يكون النصح بالحسنى وبالسر، حتى يقوم الإنسان أخاه بما يحصل به النفع دون الضرر، وبما يحصل به الخير دون الشر؛ لأن كثيراً من الناس ربما تغلبهم نفوسهم فيلتمسون علوها وشرفها بنقد الآخرين وجرحهم، وعندما تكون ثمة مواقف أو مقالات أو نحو ذلك ترى الناس يكثرون القول واللغط فيقولون: فلان كان جريئاً، وفلان كان خائفاً جباناً وغير ذلك، وهذا التقويم ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً، فإنما اجترأ من اجترأ حمية لدين الله عز وجل، وإنما سكت من سكت ربما فطنة أو حكمة أو مداراة ومراعاة لمصلحة.
وهذا أحمد بن نصر الخزاعي في أمر المحنة رأى رأياً حتى قتل، فأثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل، وغيره تأول فالتمس له العذر؛ فكل على خير ما دامت المقاصد بإذن الله عز وجل صحيحة، ولم يبلغ الناس خطأ متعمد، فإن هذا ينبغي ألا يشاع عنه قالة سوء، ولذلك يقول أحمد بن حفص السعدي: سمعت الإمام أحمد يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل: إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.
ابتدأ هذا القول بالثناء على إسحاق وإن كان يخالفه في المسائل أو يخالفه في الاجتهادات، لكن هذا الخلاف لم يمنعه من أن ينصفه، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى الاختلاف ولا إلى نفرة القلوب، بل كان من فقه الإمام رحمة الله عليه وإيمانه وورعه وتقواه أن أثنى على إسحاق، وأبلغ من هذا وأكثر منه ما رواه عبد الله بن محمد الوراق -وهذا درس عظيم- يقول: كنت في مجلس الإمام أحمد فأقبل عليه قوم فسألهم: من أين أقبلتم؟ فقالوا: من مجلس أبي كريب محدث من المحدثين فقال: اكتبوا عنه فإنه شيخ صالح، والمتوقع أن يكون هذا صديقاً حميماً للإمام أحمد، قال: فقلنا له: إنه يطعن فيك -يعني: يذكرك بسوء ويذمك- فقال الإمام أحمد: فأي شيء حيلتي فيه؟ شيخ صالح قد بلي بي.
انظروا إلى عدل الإمام أحمد وإنصافه، فإنه لم يمنعه ذلك أن ينصفه وأن يذكر فضله وأن يكف عن الرد عليه بما قد يسوء ويشوه ويبلبل الناس، ولذلك فإن من أعظم ما ينبغي أن نفقهه وأن نعلمه وأن نستفيده من دروس الأئمة هو تجردهم لله عز وجل، وعدم انتصارهم لأنفسهم؛ لأن قصدهم المصلحة العامة دون المصلحة الشخصية، ولأن دورانهم مع الحق دون دورانهم مع أنفسهم ولا آرائهم، ولذلك هذه المواقف من هذا الإمام العظيم إمام أهل السنة تبين لنا منهج السنة في إحسان الظن والتماس العذر، وعدم الرد على من يخالف لغرض الرد عليه وإنما لإظهار الحق إن كان ولا بد منه، على ما كان من رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يقولون كذا، ما بال أقوام يفعلون كذا) وهذه جولة من الجولات المهمة التي ينبغي أن نستفيد منها كما ينبغي، علينا أن نستفيد من فقه الأئمة كلهم في هذا الباب، فإن المأثور عنهم في هذا يطول ذكره، وهو من الأمور التي يفتقر إليها ويحتاج إليها كثيراً في هذه الأيام، التي إذا خالف فيها امرؤ شخصاً آخر ربما صرح بهذه المخالفة، وجعل توكيد نهجه وصحة رأيه لا تبنى إلا على نقد الآخر وتجريحه، أو الإكثار من ذكر فساد قوله على ما يعتقده هو، دون أن يكون هناك تبادل بالحب والمودة والتماس للعذر وثناء على الخير مثل ما يقع اليوم من اضطراب، فإذا الناس متحيرون وإذا بهم يتشككون في كثير من الخير وأهله؛ لأنهم يسمعون من هذا قدحاً في هذا ومن ذاك لمزاً في الآخر، فيسقط عندئذ هذا وذاك، ولا يبقى عند الناس حرمة لأهل العلم ولا للدعاة، فضلاً عن العلماء، وهذه الأمور هي لكل مسلم يوصف بالإسلام، فكيف إن كان عالماً أو داعية أو مجاهداً في سبيل الله، أو كان قائماً بأمر من أمور الخير والدين لا يقوم بها مثله، فإنه ينبغي أن تكون المراعاة لحاله وشأنه والثناء عليه والتوصية به وإرشاد الناس للاقتداء به أكثر مما ينبغي أن يذكر مخالفته لغيره في رأي أو اجتهاد.