نمضي بعد ذلك عندما تحقق للإمام أحمد هذه الجوانب كلها من ورع في الصبا، وأدب في العلم، ووقار في الرجولة، وحسن تعامل مع الأصدقاء والقرناء، صار حينئذ إماماً وقدوة، فنمضي معه وهو قدوة الأئمة فنرى أن المقتدى بهم يقتدون بالإمام أحمد، وأن المعظَمين لعلمهم وفضلهم يعظمون الإمام أحمد رحمة الله عليه.
فهذا علي بن عبد الله بن جعفر يقول: أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة في كل يوم وهو يزداد خيراً.
لو أن شخصاً خلال خمسين يوماً فقط يزيد في كل يوم عملاً من أعمال الخير لا شك أنه سيأتي بعد هذه الأيام الخمسين وقد تحول تحولاً كبيراً في حياته.
ويقول يحيى بن معاذ: أراد الناس أن أكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا أكون مثل أحمد أبداً.
يعني: أنه لا يطيق؛ لأن الإمام أحمد قد بلغ منزلة عظيمة في كل باب من أبواب الخير، حتى انقطعت دون اللحاق به الرقاب.
وكان بشر بن الحارث من قرناء الإمام أحمد، وقد ذكر عنه كثير من الأقوال التي تبين تبجيله وتوقيره للإمام أحمد وإبراز إمامته على الأئمة، فها هو يقول عندما ابتلي الإمام أحمد وثبت: إن هذا الرجل قام اليوم بأمر عجز عنه الخلق، أرجو أن يكون ممن نفعه الله بالعلم.
وقال أيضاً: أحمد إمام من أئمة المسلمين.
ثم لما جاءوا إليه قالوا له: أنت تقول بقول أحمد فلماذا لا تعلن قولك وتقف موقفه؟ فقال: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء، إن أحمد قام مقام الأنبياء.
ولما بلغه أن الإمام أحمد ضرب بالسياط مد بشر رجله وخاطب ساقه قائلاً: ما أقبح هذه الساق ألا يكون فيها القيد نصرة لهذا الرجل، ولكنه قال: هذا مقام النبيين لا أستطيع أن أقومه.
هذا مما يدل على أن الإمام أحمد وقف وقفة لم يقفها مثله من العلماء والأئمة، وإن كان ذلك ليس جرحاً فيهم ولكنه علو في منزلة الإمام رحمة الله عليه.
وهذا أبو زرعة جمع لنا هذا كله في كلمات وجيزة حيث قال: ما رأت عيني مثل الإمام أحمد، فقال له السائل: في العلم؟ فقال: في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل شيء.
وهذا الإمام البويطي رحمة الله عليه من تلامذة الشافعي سجن في المحنة وكتب من سجنه وقال في كتابه: إني لأرجو أن يجزي الله عز وجل أجر كل ممتنع في هذه المحنة لسيدنا الذي ببغداد.
يعني: الإمام أحمد؛ لأنه هو السيد المبجل المقدم في هذا الأمر، وكل من وقف وقفة في هذه المحنة فإنما كان يقتدي بالإمام أحمد؛ فهو الذي كان مقدماً في هذه المحنة.
وقال بشر عن الإمام أحمد: أحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، فكان فيها مستعصماً بالله عز وجل، تداوله المأمون والمعتصم والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس، ثم تداوله المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا انتقل عن حاله الأولى رغبة في الدنيا ولا رغبة في الذكر، وهذا هو الثبات العظيم الذي تميز به الإمام أحمد رحمة الله عليه.
من لطائف توقير وتعظيم الأئمة له أن حجاج الشاعر وهو كان من المحدثين وكان يقول: كنت أكون عند الإمام أحمد بن حنبل فأنصرف في الليل -أي: من بيته- فأذكره في الطريق فأبكي؛ شوقاً إلى لقاء الإمام أحمد والانتفاع به.
فهذا كلام الأئمة في هذا الإمام الجليل.