نمضي في جولة مع الرجل الوقور، فقد كان رحمة الله عليه مع خوفه لله عز وجل ومع حسن تعامله مع الناس وقوراً يهابه الناس، فحتى إن شيوخه وأهل العلم والتقوى وأهل الإمامة في الدين كانوا يراعون الإمام أحمد ويهابونه ويوقرونه.
فهذا يزيد بن هارون وهو من أعظم شيوخه ومن كبار أهل العلم، قال أحد التلاميذ: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه الذي يملي عليه الحديث فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب يزيد على خده كالمتأسف وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح.
لقد كان الإمام رحمة الله عليه أعظم وأشد توقيراً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وللعلم.
وعن أحمد بن شيبان قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لـ أحمد بن حنبل، ولا رأيته أكرم أحداً إكرامه لـ أحمد بن حنبل، وكان يوقر الإمام أحمد ولا يمازحه أبداً.
وقال أحدهم: كنا عند إسماعيل بن علية فتكلم إنسان فضحك بعضنا وثم أحمد بن حنبل -أي: جالس معهم- فأتينا إسماعيل بعد ذلك فوجدناه غضبان فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل.
من شدة هيبته ووقاره رحمة الله عليه.
وهناك قصة لطيفة تدل أيضاً على سمت الإمام رحمة الله عليه: يقول أحمد بن منصور: صحبت الإمام أحمد ويحيى بن معين وكنت خادماً لهما في رحلتهما لطلب الحديث عند عبد الرزاق، ولما رجعا ذهبا إلى أبي نعيم، قال ابن معين: أريد أن أختبر أبا نعيم وحفظه، فقال له الإمام أحمد: لا تفعل فإنه حافظ ثقة، فقال: لا بد لي من ذلك، فعمد إلى ثلاثين حديثاً وجعل في كل عشرة منها حديثاً ليس من حديث أبي نعيم، ثم ذهب ثلاثتهم إليه، فخرج إليهم وجلس معهم على دكة طين عند باب بيته أو قريباً من بيته، فجعل يقرأ عليه أول أحاديثه، فلما جاء إلى الحديث المغلوط قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثاني قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثالث فقال: هذا ليس من حديثي، ثم بعد ذلك التفت إلى الثلاثة وقال موجهاً حديثه إلى الإمام أحمد: أما هذا -أي: الإمام أحمد - فأورع من أن يفعل هذا، وأما هذا -يعني: أحمد بن منصور - فأقل من أن يفعل هذا يعني: لا يعرف مثل هذه الأمور.
ثم قال: ما فعلها غيرك يا فاعل، قال: ثم رفسه حتى أسقطه من الدكة، فقال الإمام أحمد لما انصرفوا لـ يحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك: إنه ثبت؟ قال: والله لرفسته أحب إلي من سفري.
وهذه القصة من كتيب لطيف اسمه (من لطائف المحدثين).