أيها المسلمون: إن من الناس من يتهاون بالشهادة، لمجرد وعد عند المحكمة أو عند الإمارة أو عند المركز يقول: ائتني بحفيظة النفوس أو ائتني بالهوية، فيجيب: على العين والرأس يا أبا فلان، هل هذا مطابق للشرع أم محاباة أم شهادة الزور؟! فيشهد بمجرد الظن أو بما لا يعلم أو بما يعلم أن الواقع بخلافه, ويتجرأ على هذا الأمر المنكر العظيم؛ مراعاة لقريب أو تودداً لصديق أو محاباة لغني أو عطفاً على فقير، يقول: إنه يريد الإصلاح بذلك، وقد زين له سوء عمله ورآه حسناً -والعياذ بالله- كما زين لغيره من أهل الشر والفساد سوء أعمالهم فرأوه حسناً, فالمنافقون زين في قلوبهم النفاق {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] فقال الله فيهم: {أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].
وعباد الأصنام زين في قلوبهم عبادة الأصنام، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وهي في الواقع أي الأصنام والأوثان لا تزيدهم من الله إلا بعداً.
أيها المسلمون: احذروا من كل مفسد يدعي أنه مصلح, أو ربما يظن أنه مصلح بسبب شبهة عرضت له فالتبس عليه الإفساد بالإصلاح, أو بسبب إرادة سيئة زينت له فاتبع هواه, ولكن الصلاح كل الصلاح باتباع شريعة الله وتنفيذ أحكام الله، والعمل بما يرضي الله.
أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه، بل بما يعلم أنه لا يستحقه, يدعي بذلك أنه عاطف عليه وراحم له، والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له, ولم يرحم نفسه، بل أكسبها إثماً بما شهد به، وأكسب المشهود له إثماً فأدخل عليه ما لا يستحقه, وظلم المشهود عليه فاستخرج منه ما لا يجب عليه.
ومن الناس من يشهد لبعض الموظفين المهملين بمبررات لا حقيقة لها, فيشهد مثلاً أن هذا الموظف مريض أو مشغول شغلاً قاهراً وهو ليس بمريض ولا بمشغول, أو يشهد له أنه استأجر سيارة تتبع عمله، ويزيد في الأجرة حتى يأخذ هذه الزيادة, أو يشتري قطع الغيار ويقول لصاحب المحل: زد في الثمن قليلاً ولا يأخذ هو الزيادة, كل هذه الحيل من الشهادة في الباطل، ومن الناس من يشهد لشخص أنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا وهو لم يقم بها, ولم يباشرها, ويزعم الشاهد له بذلك أنه يريد الإصلاح للمشهود له, ولم يدرِ أنه بهذه الشهادة أضر بنفسه وأضر بالمشهود له, وأفسد على نفسه وعلى المشهود له ما أفسد من دينه، وكل ذلك يعد من الشهادة بالزور.
كل ما سمعتم من هذه الحيل تعد من الشهادة بالزور التي حذر منها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وجعلها من أكبر الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت}.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: {ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: الشرك بالله, وعقوق الوالدين, وقتل النفس، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال: شهادة الزور}.
أيها المسلمون: إن هذين الحديثين الصحيحين الثابتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين بيّن بهما صلى الله عليه وسلم عظيم شهادة الزور، وحذر منها صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وقد عظمه بفعله حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئاً, فلما ذكر شهادة الزور جلس ليبين فداحتها وعظمها, وبين عظمها بقوله وذلك حين جعل يكرر القول بها حتى تمنى الصحابة أن يسكت.
أمة الإسلام: أيها المؤمنون بالله ورسوله! أيها الراجون لرحمة الله! أيها الخائفون من عذابه! أيها المؤمنون بيوم الحساب، يوم تقفون بين يدي الله عز وجل لا مال ولا بنون, ولا واسطة, ولا رشوة تؤخذ في ذلك اليوم، تنظرون أيمن منكم فلا ترون إلا ما قدمتم, وتنظرون أشأم منكم فلا ترون إلا ما قدمتم، وتنظرون أمامكم فلا ترون إلا النار تلقاء وجوهكم, إنكم في ذلك اليوم -يوم القيامة- ستسألون عما شهدتم به, وعن من شهدتم عليه أو شهدتم له, فاتقوا الله واحذروا مغبة ذلك اليوم.
أيها المؤمنون: تصوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله عز وجل، القائم بأمر الله تعالى، الناصح لأمته وهو يعرض على أمته بنفسه أن ينبئهم بأكبر الكبائر, ليحذّر الأمة ليبتعدوا عنها.
أمة الإسلام! تصوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أمامكم وكان متكئاً ثم جلس عند ذكر شهادة الزور, تصوروه وهو يكرر ويؤكد أن شهادة الزور من أكبر الكبائر, لو تصورتم ذلك لعرفتم حقيقة شهادة الزور.
فالحذر الحذر من شهادة الزور, والحذر الحذر من أن يزينها الشيطان في قلوبكم, ولا تأخذكم في الله لومة لائم, ولا تصدنكم عن الحق ظنون كاذبة, أو إيرادات آثمة؛ فتشاقَّوا الله ورسوله وتتبعوا غير سبيل المؤمنين.
اللهم وفقنا لإقامة الحق والعدل والبيان, وجنبنا الباطل والجور والبهتان, واحمنا عما يضرنا في ديننا ودنيانا إنك جواد كريم.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.