المقدم: عندما جهل كثير من المسلمين هذه المعاني التي تطرقتم إليها, كان ذلك سبباً في عدم قيامنا بواجبنا تجاه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كان ما كان من هذا الاستهزاء الذي حصل من أولئك القوم.
هنا وقد ألمحتم في بداية حديثكم إلى أننا نود تحرير مسألة الاستهزاء تحريراً علمياً.
الشيخ: استهزاء أهل الرذيلة بأهل الفضيلة سنة ماضية، قال الله تعالى عن أول رسله نوح: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9].
وقال تعالى في آية أشمل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31].
فهذه سنة ماضية لله تبارك وتعالى في خلقه، ونبينا صلى الله عليه وسلم في الذروة من أهل الفضل، وما وقع أخيراً من الصحافة الدنماركية على وجه التحديد وغيرها من الصحف حتى في النرويج من سخرية واستهزاء بنبينا صلى الله عليه وسلم إنما هم في الحقيقة ينبئون عما في قلوبهم.
ولكن تحرير المسألة علمياً: الأصل في هذه المسألة أن هذا الأمر ينطلق من أصلين: الأصل الأول: فردي، وهذا يختلف الناس فيه، وهو قضية الحقد على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحقد قد يوجد في يهودي، يوجد في نصراني، يوجد في من لا دين له، وقد لا توجد عداوة فردية شخصية, حتى نقل أن بعض اليهود الدنمارك أنكروا على الصحيفة سخريتها بالنبي صلى الله عليه وسلم, والله تعالى يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] فالإنصاف قد يوجد عند غير المسلمين.
الأصل الثاني وهو موضوع الكلام هنا: أنهم ربما التبس عليهم القتل وسفك الدماء الذي يحصل أحياناً ونسبته إلى الإسلام، أو بتعبير أصح: عدم فقه الغربيين لمفهوم الجهاد والقتال في الإسلام.
وهذه القضية قديمة جداً، حتى إن بعض الكتاب كـ توماس أورليد أو غيره كانوا يقارنون بين ما في القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه من أوامر بالقتال، وما في الإنجيل الذي أنزل على عيسى, ويقولون: انظروا إلى الفارق بين من يدعو إلى سفك الدماء ومن يأمر الناس بالرحمة، يقصدون عيسى؟! وهذا أصل القضية قديماً، لكنها أخذت حيزاً أكبر في عصرنا.
تحرير المسألة أن يقال: إن الله عز وجل بعث نبيه بأمرين: بعثه بالسيف والعدل.
من سنن الله التي لا تتبدل أنه ليس كل أحد يمكن أن يأتي بلين القول، ولا يجادل في هذا عاقل, فحتى هؤلاء الذين يسخرون من نبينا صلى الله عليه وسلم ويتهمونه بأنه جاء بالقتال لو أتى شخص ليداهم منازلهم الخاصة فلا بد أن يردوه بشيء من القوة, فالقوة في الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لحفظ المسألة الكبرى وهي مسألة التوحيد التي بعث الله بها نبيه رحمة للعالمين.
فمن رحمة الله جل وعلا بخلقه أن الأنبياء جاءوا بتوحيد الله جل وعلا, وهذا أعظم رحمة لهم؛ لأن ضد ذلك أن يشرك بالله، وهذا أعظم الظلم وأعظم طرائق الخسران والوبال.
هذه قضية السيف، فالسيف في الإسلام ليس منفكاً عن العدل: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم فالمقصود في الإسلام هو العدل، بمعنى: أن هذا السيف يرفع على من وقف في طريق تبليغ الدعوة إلى لله بضوابطه الشرعية المفصلة فقهياً في مظانها على أيدي فقهاء الإسلام الوارثين العلم عن رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
لكن لا يمكن الحديث عن السيف دون الحديث عن العدل، أو الحديث عن العدل دون أن يحمى بالسيف، لا تقوم حضارة صحيحة منصفة قوية إلا أن تقوم على حق وهو أس الحضارة, ثم هذه الحضارة تحمى بأمرين: تحمى بالعدل وتحمى بالسيف، وعلى فرض ما قال النصارى وزعموه أن عيسى عليه السلام صلب, نقول: على فرض هذه الجدلية الكاذبة فإن عيسى هذا الذي تدعون أنه قتل قتلاً لو وجد من ينصره لما قتل.
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم.
يترتب على هذه القضية في تحرير المسألة علمياً، أنه لابد أن يفرق عند الحكم على أحد عن حالته الخاصة وحالته العامة, وهذا أصل في الحكم على الملوك والسلاطين وذوي القدر والجاه، فلا يكون الحكم على الشخص في حالته العامة كالحكم عليه في حالته الخاصة.
وسآتي بمثال قريب جداً قبل أن أنتقل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو فرضنا أن أحد الناس له ابن صدمته سيارة، فجاء أهل الجاني بعد أن مات الغلام شفعاء ووجهاء وجيران حي إلى ولي الدم يقولون له: تنازل عن الدية فإن من صدم ابنك لم يتعمد، ثم إنه فقير أو غير ذي مال كثير.
هنا الرجل ينظر إلى حالة خاصة فيقول: تنازلت وعفوت! فنقول: هذا شيء مقبول محمود مثني عليه في الكتاب والسنة وفي أعراف الناس.
لكن لو قدر أن نفس الرجل صدم أخوه وقد ترك ذرية، وكانت هذه الذرية دون الخامسة عشرة وتسمى في حكم الشرع والاصطلاح أيتاماً، فلهم حق, فلو جاء هؤلاء الشفعاء وطلبوا منه أن يتنازل عن دية أخيه لم يكن له أن يتنازل، لأنه لو تنازل أضاع حقوق اليتامى، فليس له أن يتنازل عن دية أخيه، وإنما يطالب بها بقوة حتى يحفظ لليتامى حقهم.
فالكلام بالشيء العام والولاية غير الكلام بالشيء الخاص.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرحم الشاة ويقول لأصحابه: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله).
فهو عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا في ذات الله، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يقبل أعرابي يشده فيعفو عنه, وتأخذ الجارية من أهل المدينة بيده فتذهب به حيث شاءت صلوات الله وسلامه عليه.
لكن عندما تريد أن تؤسس دولة وتقيم عقيدة وترمي إلى نشرها في الأرض، ينبغي أن تنظر إلى المصالح والمفاسد، وتنظر أين المصلحة العليا لهذا الدين الذي جئت به، فتعفو عندما يكون العفو له مردود إيجابي، ولا تعفو حينما لا يكون للعفو مردود إيجابي، وهذا عين شرعه الذي طبقه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه في قضية السيف الموازي للعدل الحافظان كلاهما لقضية العدل.
فهؤلاء الدنماركيون أو غيرهم ممن يقرأ قضية الجهاد في سبيل الله قراءة خاطئة ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا مما لا نستسيغ أن نقوله حتى على سبيل ضرب المثال؛ كل ذلك لأن الأمر لديهم ملتبس أو لأنهم لم يحرروا علمياً النظرة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن أي شيء إنما يترك إذا كانت هناك مفسدة أكبر منه، ولا توجد مفسدة أعظم من الشرك بالله جل وعلا.
وهو صلى الله عليه وسلم ما رفع السيف على قريش إلا عندما حالت بينه وبين أن يبلغ دعوة الله، ومنعته حتى أن يقيم دينه في المدينة، فرفع السيف عليهم، وإلا فقد جاء الإسلام بالجزية كما هو معلوم، وهذا تحرير المسألة علمياً.
فهؤلاء وأشياعهم أو من آمن بفكرهم من صحفيين أو غيرهم لم تحرر لديهم مسألة السيف في دين الرب تبارك وتعالى تحريراً علمياً.
فرمي الإسلام بقضية السيف، ورميت هذه البلاد بأن شعارها السيف، لكن تحرير المسألة علمياً ينتج أنها قضية حق يراد أن يقام له حافظان: السيف والعدل.