الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى، وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جلّ وعلا به, وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله.
وإن مما أفائه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا الله جل وعلا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله حظنا من النبيين.
وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت قبل أن تضعه أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، صلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق، وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة, إلا أن من رحمة الله جل وعلا بنا، وفيئه علينا تبارك وتعالى أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا جل وعلا يوم القيامة في زمرته.
نسمع المؤذن كثيراً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله, فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجميل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن هذا أمر قد مضى قدراً بقدر الله جل وعلا ورحمته، ونحن دائماً وأبداً مؤمنون مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره, فإن كان قد فاتنا شرف الصحبة فقد بقي لنا شرف الإتباع.
أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد، وشخصية فريدة، وعبد وأي عبد أثنى الله عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب, قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه, مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسنى, وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام, كل ذلك من احتفاء الله وإظهاره كرامة هذا النبي.
ولقد قال الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم مثنياً على مقامه عند الله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه! الذي دفعنا إلى هذا القول: أن هذه الواقعة التي وقعت التي سنتحدث عنها تفصيلاً بعد تجاوز المسألة الإيمانية، أقول: قد يشتاق كل مؤمن لو نال شرف الصحبة.
ولهذا أستأذنكم وأستأذن من يرانا ويسمعنا في نقل ما وصفه به أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- الذين منَّ الله عليهم برؤية هذا النبي الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه, وجملة ما قالوه: أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر، بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً, كما أنه صلى الله عليه وسلم كان أقنى الأنف أجلى الجبهة, في جبينه أو في جبهته صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب, إذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً.
وكان أزج الحواجب في غير قرن, أشم الأنف, طويل أشفار العينين, ضليع الفم أي: كبير الفم, مهذب الأسنان, كث اللحية, الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته صلوات الله وسلامه عليه, عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة, من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.
جاء الرواة بنعته بقولهم: دقيق المسربة، إذا أشار أشار بيده كلها, وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله.
وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح: (أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه) صلوات الله وسلامه عليه, من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه, يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه.
ونحن على ما قال علي رضي الله عنه من المصدقين المؤمنين.
فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد.
ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يمشي يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه.
عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ, ثم نبئ بـ {اقْرَأْ} [العلق:1] وأرسل بالمدثر, وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه.
عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة, يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده.
وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة فحملت سلا الجزور عن أبيها، وهو عند الله في المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة، والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه.
أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً.
لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح.
فليس في القرآن: يا محمد، ولكن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] كل ذلك من دلائل مقامه وجلال شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى.
عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى، ثم عاد صلوات الله وسلامه عليه في نفس الليلة، ثم هاجر إلى المدينة فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام.
مكث في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده.
شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه, وكسرت رباعيته وينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله).
في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته.
فأنزل الله عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه, فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه.
وفي أوائل شهر ربيع الأول من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة رضي الله عنها وهي تقول: (وارأساه! فقال: بل أنا وارأساه).
ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع.
دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له، فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً، وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء.
ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته نبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى، ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة رضي الله عنها وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً.
ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
هذه على وجه الإجمال -أيها الإخوة والأخوات المباركون- سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ونبذة عن نفسه مما علق قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى.
فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأفضل أهل السماء.
قال شوقي ونعم ما قال: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ إلى أن قال: يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ اللهُ قَسَّمَ بَينَ الخلق رِزقَهُمُ وَأَنتَ خُيِّرتَ في الأَرزاقِ وَالقِسَمِ إِن قُلتَ في الأَمرِ لا أَو قُلتَ فيهِ نَعَم فَخيرَةُ اللهِ في لا مِنكَ أَو نَعَمِ أَخوكَ عيسى دَعا مَيتًا فَقامَ لَهُ وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ الرمم جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ أَسرى بِكَ اللَهُ لَيلاً إِذ مَلائِكُهُ وَالرُسلُ في المَسجِدِ الأَقصى عَلى قَدَمِ لَمّا رأوك بِهِ اِلتَفّوا بِسَيِّدِهِمْ كَالشُهبِ بِالبَدرِ أَو كَالجُندِ بِالعَلَمِ صَلّى وَراءَكَ مِنهُمْ كُلُّ ذي خَطَرٍ وَمَن يَفُز بِحَبيبِ اللهِ يَأتَمِمِ جُبتَ السَماواتِ أَو ما فَوقَهُنَّ بِهِمْ دجى عَلى مُنَوَّرَةٍ دُرِّيَّةِ اللُجُمِ رَكوبَةً لَكَ مِن عِزٍّ وَمِن شَرَفٍ لا في الجِيادِ وَلا في الأَينُقِ الرُسُمِ حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها عَلى جَناحٍ وَلا يُسعى عَلى قَدَمِ مَشيئَةُ الخالِقِ الباري