ومن الآيات التي يحسن تدبرها في مقام كهذا أن الله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود منزلة في عرف أهل الرياضيات لا تقبل القسمة على اثنين، قال صلى الله عليه وسلم عن الوسيلة: (إنها منزلة لا تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو)، فلما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم المطالب وأسمى الغايات، أخبره بالطريق الأمثل والسبيل الأقوم للحصول عليها، فدل جل وعلا على قيام الليل، فقال جل ذكره وتباركت أسماؤه: (وَمِنَ اللَّيْلِ)، و (من) هنا إما أن تكون بيانية وهو قول فريق من العلماء، وإما أن تكون بعضية وهو الأغلب.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) أي: بالقرآن، زيادة لك في الخير، (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، قال العلماء: إن من أنجع الطرائق لتحقيق الغايات والوصول إلى الأماني أن يقوم الإنسان بين يدي ربه يتهجد بين يديه، ويسأل الله جل وعلا ويستعين به ويرجوه؛ لأن الله جل وعلا قال: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ)، والبعث يطلق على الحياة بعد الموت، فكأن تلك المنزلة التي وعدك الله بها أيها النبي الكريم لن تنالها بما لديك من مزايا، وإنما هي هبة ربانية، ومنحة إلهية لك، وكان أعظم سبب هيأه الله لك كي تنالها أن منّ عليك بأنك تحسن القيام بين يديه.
تقول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه، ويقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
قال الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهذا وصف عام لخلق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه الصلاة والسلام جبل على الرأفة والرحمة بالخلق أجمعين، ولهذا نعته ربه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
وقوله جل وعلا: (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يشعر الناس بقرب هذا النبي حساً ومعنىً منهم، وهذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ترك هدياً عظيماً كما بينا آنفاً، والعبرة كل العبرة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).
والتكاليف الشرعية أيه المبارك تنقسم إلى قسمين: أوامر ونواهٍ، فالحظ من الأوامر والنيل منها إنما يكون بقدر الاستطاعة، فلا واجب مع العجز، وأما ما حرمه الله أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم فليس لنا إلا الكف والانتهاء عنه أمراً واحداً، ولا يدخل حيز المراتب كما تدخله حيز الأوامر اللهم إلا في مسائل الضرورات، فهذه قد بينها أهل الفقه ولها أحكامها، لكن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقد يقدر عليه زيد ولا يقدر عليه عمرو، فيندرج تحت قول الله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وأما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيكف الإنسان وينتهي عنه قولاً واحداً إلا -كما قلت- في حال الضرورات.