فرض الله علينا محبته وطاعته والإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وتنفيذ ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه، ولقد كان الجيل الأول من أهل القرون المفضلة من أصحابه صلوات الله وسلامه على نبيه ورضي الله عنهم, أعظم ما يكونون محبة وانتصاراً واتباعاً واقتفاء لآثاره صلوات الله وسلامه عليه.
وقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام يخطب على نفس منبره، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقامي هذا في عامه الأول.
ثم أراد أبو بكر أن يتم الكلام فما استطاع ثلاث مرات وهو يغالب دمعه رضي الله عنه وأرضاه.
وأعطى عليه الصلاة والسلام سيفه لـ أبي دجانة رضي الله عنه, أن يأخذه بحقه يوم أحد, فأخذ أبو دجانة السيف بحقه فلما حمله ليضرب به أحد المشركين إذ أحدث صوتاً فعرف أنه امرأة، قال: فرفعت السيف إكراماً لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وكان ثابت البناني أحد التابعين رضي الله عنه وأرضاه إذا رأى أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على أنس وقبّل يده ويقول: إنها يدٌ مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج عليه الصلاة والسلام إلى المقبرة ذات يوم ثم قال: (وددت لو أني رأيت إخواني, قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض) أي: سابقهم إليه, (قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل دُهم بُهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض).
جعلني الله وإياكم برحمته منهم.
وإن من أعظم دلائل محبته صلوات الله وسلامه عليه التماس سنته واقتفاء أثرة وأتباع دينه، والذود عن رياض سنته صلوات الله وسلامه عليه، ولن يتبع هذا الطريق أحد، ولن يلتمس ذلك الهدي مؤمن إلا وسيؤذى ويبتلى ويختبر ويمتحن، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
فيصبر المؤمن على أذى الناس وهمز الهمازين ولمزهم غيرهم, وما إلى ذلك إذا اقتفى السنن، ويجد في ذلك عناء في وقته, وعناء من زوجته وعناء من ولده، وعناء في المال, ولكن من أحب محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به وعظّم الله جل وعلا ووحده من قبل فإنه يصبر على ذلك كله، وهو يلتمس هديهه صلوات الله وسلامه عليه، ويعض على سننه بالنواجذ حتى يلقاه عليه الصلاة والسلام، فهو فرطنا وسابقنا على الحوض.
ففي يوم القيامة يحشر الناس حفاةً عراةً غرلا، أحوج ما يكونون إلى الماء، عطشى ظمأى فلا يجدون حوضاً أمامهم أكرم ولا أجل من حوضه صلوات الله وسلامه عليه، وهو واقف على الحوض يسقي أمته، فكلما كان الإنسان عظيم المحبة والاتباع مع توحيد الله جل وعلا وإيمان به -كما أمر جل وعلا وقرر في كتابه وعلى ألسنة رسله- كان حظه في ذلك الموقف أن يُسقى من يد رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
لكن المؤمن الحصيف العاقل يعلم أن العلم الشرعي ومعرفة كيفية الاقتداء بسنته أمر حتمي لا بد منه، فليس أن يأخذ الإنسان بأجزاء من الأحاديث أو بطرف منها، أو لا يعلم مناسباتها ولا دلائلها كما بينها علماء أهل السنة رحمهم الله جل وعلا أحياء وأمواتاً، وإنما ينظر الإنسان على بصيرة وعلى هدى وعلى نور من ربه، وعلى علم شرعي فيقتفي تلك السنن حتى لا يكون ضرره أكثر من نفعه، وحتى لا تكون غوايته أكثر من هدايته.
ومن تلمس السنة بقلب واعٍ صافٍ، ونية خالصة، وهو محب لله، محب لرسوله صلى الله عليه وسلم، قربه الله جل وعلا من هذا الهدي، ونصر الله جل وعلا به الدين، وأوضح الله تبارك وتعالى به الصراط المستقيم.
ولا يستطيع الإنسان أن يطنب في الحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه أكثر من هذا، وإلا فالحديث عنه يجمل ويحلو وإن كان مكرراً، ولكننا مقيدون بأمور التزمنا بها في أول محاضرتنا.
وجملة القول أيها المؤمنون: إن لنبيكم عليه الصلاة والسلام أعظم المكانة وأجلها عند ربه، ولن تكونوا مؤمنين حقاً حتى توحدوا الله كما أمر، ثم تتبعوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، والسر والجهر، في الحل والترحال، والسفر والإقامة، ولا يتبع الإنسان هواه ورغباته، ولا يسعى الإنسان فيما يوافق ما تكنه نفسه، وإنما يجعل نفسه تسير حيث سار هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو خالف ذلك هواك، أو من تقتنع برأيه، أو بالبيئة التي أنت فيها، أو العاطفة التي تتمسك بها، أو الحماس الذي يغلب عليك.
فالسنة هي التي تقودنا إلى الحق وليس نحن الذين نلوي أعناق السنن لنصل إلى ما نريد.