حادثة الإسراء والمعراج

أما الإسراء والمعراج: فغني عن القول أن يقال: إن الله جل وعلا جعل لنبينا المنزلة السامية، والمقام الرفيع، والمنزلة الجليلة عند ربه جل وعلا، فقد دل ظاهر القرآن وباطنه على ذلك، وكثيرة في القرآن الآيات التي يخاطب الله جل وعلا بها هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تدل لكل ذي عقل وذي لب وذي قلب واعٍ ما للنبي صلى الله عليه وسلم من منزلة سامية ومكانة رفيعة عند ربه.

خاطب الله جل وعلا في القرآن جماً غفيراً من الأنبياء بأسمائهم المجردة، وليس في القرآن كله وبين دفتيه آية واحده يقول الله فيها: يا محمد! فقد قال تعالى: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48]، وفي القرآن: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، وفي القرآن: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وفي القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41].

وكذلك يخاطب الله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.

وقد أقسم الله جل وعلا بعمره فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72].

وأقسم بالأرض التي يطأها، قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1 - 4].

أقسم الله جل وعلا له ليرضى صلوات الله وسلامه عليه فقال جل وعلا: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5].

ما كانت رحلة الإسراء والمعراج إلا دلالة من الدلائل على احتفاء الله جل وعلا بنبيه صلوات الله وسلامه عليه.

فقد عاد عليه الصلاة والسلام من الطائف وقد أصابه من الكلوم والجراح ما أصابه، فقد رده سادتها، فدخل مكة في جوار مطعم بن عدي وكان يومئذ كافراً ومات على الكفر.

وأصابه من الحزن ما أصابه، حتى إذا كان ذات ليلة في بيته إذ رفع سقف البيت، وإذا بجبرائيل ينزل ثم يأخذ قلبه الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، ثم يضعه في طست قد ملئ إيماناً وحكمة ثم يغسله, ثم يعاد القلب إلى موضعه من جسد نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقدر على هذا إلا الله ولا تصدقه إلا القلوب المؤمنة الواعية التي تقول كما أخبر الله عنها: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].

ثم أسري به صلوات الله وسلامه عليه من مرقده في مكة إلى المسجد الأقصى إلى بيت المقدس، وهذا الذي أنبأ الله جل وعلا عنه بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].

قرب له صلى الله عليه وسلم البراق -وهي: دابة- ليركبها، فلما دنا منها صلوات الله وسلامه عليه، حمله البراق إلى المسجد الأقصى، فلما أتى المسجد صلوات الله وسلامه عليه ربط البراق في حلقة كان الأنبياء من قبله يربطون بها دوابهم.

فدخل عليه الصلاة والسلام المسجد الأقصى، وصلى فيه ركعتين إماماً بإخوانه من النبيين والمرسلين، كل ذلك في برهةٍ من الليل لم يتبين له معالمهم، ولم يعرف أسماءهم ولم يتبين له ظواهرهم.

ثم قدم له البراق مرة أخرى وعرج به صلى الله عليه وسلم -قيل: بالبراق، وقيل: بغيره- إلى السماوات السبع، ليرى من آيات ربه الكبرى، فلما أتى السماء الأولى ومعه جبرائيل، استفتح جبرائيل , فقال خزنتها: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قيل: أوَمعك أحد؟ قال: نعم، معي محمد، فقال الخازن: أوَقد بعث؟ فقال جبرائيل: نعم.

فلما فتح بابها، رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً حوله أسودة عن شماله وأسودة عن يمينه، إذا نظر إلى يمينه ضحك، وإذا نظر إلى شماله بكى، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا أبوك آدم، والأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه، أي: أرواح بنيه, والذين عن يمينه من كتب الله لهم الجنة، والذين عن يساره من كتب الله لهم النار، فإذا رأى أهل الجنة ضحك، وإذا رأى أهل النار بكى.

فسلم آدم على نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح.

ثم عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية، فإذا بها ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فسلما عليه قائلين: أهلاً بالنبي الصالح والأخ الصالح.

ثم أتى السماء الثالثة صلوات الله وسلامه عليه، فإذا فيها أخوه يوسف وقد أعطي شطر الحسن.

ثم أتى السماء الرابعة فإذا فيها أخوه إدريس، وتلا عندها لما أخبر عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57].

ثم أتى السماء الخامسة، فرأى رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، (قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا المحبب في قومه؛ هارون بن عمران).

ثم أتى السماء السادسة فرأى فيها موسى بن عمران كليم الله.

ثم أتى السماء السابعة فإذا رجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال عليه الصلاة والسلام عنه: (ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم)، فسلم عليه قائلاً: أهلاً بالنبي الصالح والابن الصالح.

ثم رُفع صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فدنى وتدلى منه جبرائيل، فرأى جبرائيل للمرة الثانية، وكان قد رآه أول ما رآه على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها في أيام الوحي الأولى يوم رآه على كرسي ما بين السماء والأرض قد سد ما بين المشرق والمغرب, قال الله في كتابه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:13 - 16].

ثم بين الله جل وعلا في هذا الخبر القرآني الصادق أن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الرحلة كان أعظم الناس أدباً وأكملهم خلقاً، وأنه ما التفت ميمنة ولا ميسرة، ولا زاغ بصره يميناً ولا شمالاً، فقد وقف حيث أوقفه ربه وقام حيث أقامه الله، فقال الله جل وعلا يزكيه ويثني عليه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18].

ثم اقترب صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فكلمه ربه جل وعلا وأدناه وناجاه، ودخل عليه الصلاة والسلام الجنة فإذا تربتها كجنابذ اللؤلؤ، ثم رأى صلى الله عليه وسلم النار عياذاً بالله منها ثم جاوز صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، وهي سدرة ينتهي إليها ما يعرج من الأرض إلى السماء، ثم عاد صلى الله عليه وسلم من ليلته.

عاد كرة أخرى ماراً بالمسجد فصلى صلى الله عليه وسلم فيه، ثم عاد راجعاً إلى مكة، كل ذلك في برهة من الليل تكرمة من الله جل وعلا له.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015