السابعة: من هذا كله يتضح أيها المؤمنون! أن من أعظم القربات، وأجل المنجيات محبته صلى الله وسلم عليه: وقد علمتم ما أصاب المسلمين عندما علموا بخبر وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى عمر وهو المحدث الملهم، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان نبي بعدي لكان عمر)، غلب على أمره، وذهل عن عقله، وقال: من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه.
وما ذاك إلا لعظيم محبتهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاعلم يا أخي! أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة، جاء في الصحيح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت)، فقال أنس: وأنا والله أحب الله ورسوله، وأحب أبا بكر وعمر.
وأنت أيها المؤمن! لا ريب أنك ترى أن الناس اليوم فريقان: منهم من غالى غلواً زائد عن الحد الشرعي في محبته صلى الله عليه وسلم، ومنهم -والعياذ بالله- من أراد أن يفر من الغلو فلجأ إلى الجفاء، فلم تعد محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاطفة جياشة، ولا محبة صادقة، وإن سألته قال: أخاف من الشرك، أخاف من البدع، وكلا الفريقين بلا شك على خطأ.
فأما الأولون فربما قادهم الغلو في محبته وتعظيمه وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الشرك بالله، والخروج من الملة بالكلية، والبوصيري نظم قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أولها: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق بالظلماء من إضم فما لعينيك إن قلت اكففا همتا وما لقلبك إن قلت استفق يهم وهذه البردة غالى فيها البوصيري رحمه الله وعفا عنه غلواً غير شرعي في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ بالناس الذين نهجوا نهجه، ولزموا بدعته أن قالوا: لا يجوز قراءة هذه القصيدة إلا أن يكون الإنسان متوضئاً متطهراً مستقبل القبلة، فجعلوا هذه القصيدة محاكاة للقرآن والعياذ بالله.
ثم نشأ أقوام خافوا أن يقعوا في هذا الأمر فجفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما ذكر أحدهم اسم رسولنا عليه الصلاة والسلام أو سمعه دون أن يصلي ويسلم عليه، وربما عاش دهره كله لم يأت قبره الشريف ليسلم عليه، وربما خاف من البدع أكثر فرفض أن يأتي أهل البقيع فيسلم عليهم، وربما رفض أن يأتي شهداء أحد فيسلم عليهم.
ولا ريب أيها المؤمنون! أن أهل السنة والجماعة يدورون مع الحق حيث دار، ويلزمونه حيث وجد، فإن المؤمن لا يتأثر بالبيئة التي حوله، ولا بما يسمع، وإنما يتأثر بالقول الحق الذي مصدره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل سلف الأمة الصالح.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي البقيع فيسلم على أهله ويستغفر لهم، وكان يأتي شهداء أحد فيسلم عليهم ويستغفر لهم، وكان أصحابه من بعده يأتون قبره الشريف فيسلمون عليه، ويأتون أهل البقيع، ويأتون شهداء أحد فيسلمون عليهم تأسياً بفعله صلوات الله وسلامه عليه.
فلا يوجد في دين الإسلام شخص يموت الدين بموته ويبقي ببقائه، ولو وجد هذا الشخص لكان رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يربي الناس على أن يتعلقوا بزيد أو بعمر، أو يتعلقوا بالعالم الفلاني، أو بالداعية الفلاني، أو بالأمير الفلاني، فإن الدين دين الله، والهدى هدى الله، والمراد الجنة، والخوف من النار، أما الناس فإن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فقد يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، والسعيد من تعلق بالله وحده، ولزم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعط عقله لأحد غيره ولزم الكتاب والسنة ولم يجنح لشيء غيرهما، يحب الحق حيث وجد، ويكره الباطل حيثما وجد، ويعتذر لأئمة المسلمين وعلمائهم ودعاتهم إذا رأى أنهم قد أخطئوا السبيل أو حادو عن المنهج، أو ما إلى ذالك مما لا يسلم منه أحد من الخلق.