ثم أعقب حجة النبي صلى الله عليه وسلم أحداث متتابعة بدءاً من مرضه صلوات الله وسلامه عليه، وانتهاء بدفنه، وهي على وجه التفصيل: أنه صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع أرسل إلى غلام له مولى له يقال له: أبو مويهبة فذهب هو وأبو مويهبة إلى البقيع، فأتى أهل البقيع واستغفر لهم ودعا لهم -صلوات الله وسلامه عليه- ثم قال: (يا أبا مويهبة! إن الله خيرني بين أن أعطى مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقاطعة أبو مويهبة قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا، والخلد فيها ثم الجنة، فقال صلى الله علية وسلم: لا والله يا أبا مويهبة! ولكنني اخترت لقاء ربي ثم الجنة).
ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه وقد شعر بصداع في رأسه، فاستقبلته زوجته عائشة وكانت رضي الله تعالى عنها قد أصابها صداع قبله، فلما دخل عليها قالت: يا رسول الله! وارأساه! تشتكي رأسها، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل أنا وارأساه)، أخبر عن مرضه، وعن الصداع الذي يصيبه.
ثم ما زال الصداع يتعاقب عليه ويشتد مع حمى شديدة كانت تنوبه صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ المرض يثقل عليه شيئاً فشيئاً، فلما أثقل عليه عرف أنه لا يستطيع أن يأتي على بيوت نسائه كلها، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث اشتد عليه وجعه فأستأذن أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن أن يكون في بيت عائشة، فأذن له صلوات الله وسلامه عليه، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة تختط قدماه في الأرض متكئاً على رجلين: هما الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، حتى أتى بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فمكث في بيتها يشتد عليه الوجع شيئاً فشيئاً، فلما ثقل عليه المرض، وشعر صلى الله عليه وسلم بدنو أجله أخذ يصنع أشياء يودع بها الناس، وتبرأ بها الذمة.
ولما كثر عليه المرض واشتد عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قرب من الماء لم تحل أوكيتهن، فأهرقوا عليه سبع قرب صلوات الله وسلامه عليه، ثم خرج إلى الناس عاصباً رأسه فدخل المسجد وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ به خطبته أن صلى على شهداء أحد واستغفر لهم؛ وفاء منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
ثم بعد ذالك أخذ يوصي الناس بالأنصار وفاء منه صلى الله عليه وسلم للأنصار فقال: (إنهم كرشي وعيبتي، وإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم)، وأوصى الناس من بعدهم أن يقبلوا من محسنهم وأن يتجاوزوا عن مسيئهم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبداً خيره الله بين الدنيا وزهرتها ثم الجنة، وبين لقاء ربه فأختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه وفهم المراد، وقال من أقصى المسجد: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! فقال صلى الله علية وسلم: على رسلك يا أبا بكر! ثم التفت إلى الناس يبين لهم مقام أبي بكر في الأمة فقال: إن من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبا بكر، ولو كنت متخذ خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ثم قال: لا يبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر).
فلما انتهى من ذلك صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه إلى بيته يزداد عليه المرض شيئاً فشيئاً.
ثم دخلت عليه ابنته فاطمة فسارها بشيء في أذنها فبكت، ثم سارها كرة أخرى فابتسمت، ثم سئلت عن ذلك بعد فذكرت أنه أخبرها في الأولى بقرب أجله وأنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها بأنها أول أهله لحوقاً به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، فابتسمت رضي الله تعالى وأرضاها.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام قبل أربعة أيام من وفاته أعتق غلمانه، وتصدق بسبعة أو تسعة دنانير كانت عنده صلوات الله وسلامه عليه.
ثم مكث المرض يشتد عليه فكان يغمى عليه أحياناً ويفيق أحياناً من شدة الحمى التي كانت تصيبه صلوات الله وسلامه عليه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلي بالناس أرسل إلى أبي بكر أن يصلي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعته، فأوصت من يدعو عمر أن يصلي فصلى بهم عمر، فلما سمع صلى الله عليه وسلم صوت عمر قال: (يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلين بالناس إلا أبو بكر) كالإشارة إلى استخلافه من بعده رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وبقي أبو بكر يصلي بالناس حتى خرج إليهم صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجدهم يصلون وأبو بكر يتقدمهم، فأشار إلى أبي بكر أن ابق مكانك فلم يقبل، فرجع أبو بكر وصلى صلى الله عليه وسلم إماماً بهم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فلما فرغ من الصلاة قال لـ أبي بكر: (ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما كان لـ أبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).