لمحات من سيرة النبي الكريم قبل رحيله

الحمد لله الذي يتضاءل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشكره تبارك وتعالى شكراً متوالياً، وإن كان يتضاءل مع فضله ونعمه شكر الشاكرين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله.

أما بعد: أيها المؤمنون! قبل ألف عام وماتين تقريباً مات أمير من أمراء العرب وقوادهم آنذاك يقال له: محمد بن حميد الطوسي فرثاه أبو تمام الشاعر العباسي المعروف بقوله: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر كأن بني نبهان يوم وفاته نجوم سماء خر من بينها البدر مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر فلئن قيلت هذه الأبيات في رثاء واحد من أمراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيا ترى ما يقول الإنسان وهو يستذكر اللحظات الأخيرة، والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.

أيها المؤمنون! نبيكم صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وصاحب مولده إرهاصات عظيمة تدل على أن هناك شيئاً ما سيكون، وأن هناك نبياً سيبعث، وأن هناك عظيماً سيقود الناس.

ثم نشأ صلى الله عليه وسلم في كنف جده عبد المطلب حتى أصاب قريشاً جدب الديار وقلة الأمطار، فطلب القرشيون من عبد المطلب أن يستسقي لهم، فحمل عبد المطلب رسولنا صلى الله عليه وسلم فألصقه بجدار الكعبة واستسقى به فما أنزله حتى سقوا وهو يوم ذاك صلى الله عليه وسلم غلاماً في الرابعة من عمره تقريبا.

قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل حتى إذا بلغ مبلغ الرجال تزوج صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد، ثم لما شارف على الأربعين صلى الله عليه وسلم حبب إليه أن يخلو بنفسه، فكان يأتي غار حراء يتحنث الليالي ذوات العدد، معه زاده طعاماً وشراباً، حتى كان ذلك اليوم العظيم الجليل في تاريخ الإنسانية كلها يوم ناداه الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4].

من يومها أخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين ربه، ويرشد إليه متحملاً أصناف العذاب، وألواناً من الأذى، وكثيراً من السخرية، وهو لا يزيد صلى الله عليه وسلم على أن يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

حتى بلغ من أذى كفار قريش له أنه كان عليه الصلاة والسلام ساجداً عند الكعبة فسخر منه بعض القرشيين المحيطون بها، فقال بعضهم لبعض: من يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد وهو ساجد، فقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فحمل سلا الجزور ورفثه ووضعه على ظهره صلوات الله وسلامه عليه وهو ساجد، فلم يستطع أن يرفع ظهره حتى ذهب أحد الرجال وأخبر فاطمة فقدمت رضي الله عنها وأرضاها وهي يوم ذاك جارية صغيرة فحملت الأذى عن أبيها، ثم سبتهم، فلما رفع صلى الله عليه وسلم رأسه دعا عليهم قائلا: (اللهم عليك بـ شيبة بن أبي ربيعة، اللهم عليك بـ عتبة، اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام، اللهم عليك بـ أمية بن أبي خلف)، وسمى رجالاً فكل من دعا عليهم كانوا صرعى يوم بدر.

ثم ذهب إلى الطائف وعاد منها مكلوم الفؤاد، فلما عاد صادف ذلك موت عمه أبي طالب وموت زوجته خديجة، فأسرى به ربه تسلية له إلى سدرة المنتهى، ثم عرج به إلى السماوات السبع حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام.

يا أيها المسرى به شرفا إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوم من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء فلما اشتد عليه أذى قريش أذن له ربه وأمره بالهجرة إلى البلدة الطيبة المباركة مدينته صلى الله عليه وسلم، فحط فيها رحله، وأسس فيها مسجده، وأقام فيها دولة الإسلام، وطبق فيها شرائع الدين، وأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله حق دعوته، ويجاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده سنين طوالاً حتى أتم الله جل وعلا له في العام الثامن من هجرته فتح مكة، فدخلها صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء، وعلى رأسه المغفر فطاف بالبيت وهو على راحلته.

ثم فتحت له الكعبة فدخلها صلى الله عليه وسلم فكبر الله في نواحيها، وأذهب عنها معالم الوثنية، ثم رأى صورة إبراهيم وقد صور له وهو يستقسم بالأزلام فقال: (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام ثم تلا: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]).

ثم عاد صلى الله عليه وسلم يتابع جهاده ودعوته إلى ربه حتى كانت السنة التاسعة للهجرة فبعث أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً على الحج في ذلك العام، وفي آخر العام التاسع بدأ صلى الله عليه وسلم يشعر بدنو أجله، ويشعر بقرب رحيله وفراقه لمن حوله من الناس، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه عليه الصلاة والسلام ودع معاذاً لما بعثه إلى اليمن، ومعاذ على راحلته، وهو عليه الصلاة والسلام يمشي إلى جانب ناقة معاذ وبعد أن أوصاه بما يفعل في أمر الدعوة قال: (يا معاذ! لعلك لا تلقاني بعد عامي هذا، يا معاذ! لعلك أن تمر على قبري ومسجدي)، ثم ودعه صلوات الله وسلامه عليه فذهب معاذ إلى اليمن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015