وهناك أسباب كثيرة دعتني إلى تناول هذا الموضوع وطرحه والحديث عنه: فنحن أمة لها رجال وقادة في الفكر والعلم، ولها رجال ٌوقادةٌ في السياسة والإدارة، ولها رجال وقادة في الحروب والمعارك، وتنشئة الجيل على تعظيم هؤلاء الكبار ضرورة تربوية لا بد منها.
إن المسألة ليست مسألة ابن باز فحسب، بل مسألة كل العظماء والكبار والأئمة والقدوات فبمن يقتدي الجيل؟! وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشبابنا، ونربيهم على تقفي آثارها، والسير على خطاها والنسج على منوالها؟! ما بالك إذا نشأ الجيل وهو يشعر بأن الأمة تتنكر لعظمائها، وتتجاهل تاريخهم؟ {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر:35] إنها لكارثة عظمى.
فإما أن ينساق هذا الجيل مع ذلك التيار فيتنكر للكبار كما تنكر مَن قبله، فيصبح الجيل منسلخاً عن أصوله ومبادئه، بلا تاريخ وماضٍ، فهو مقطوع الصلة بماضيه، مبتوت العلاقة بتاريخه.
وكما قال أحمد شوقي: مَثَلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيطٍ عَيَّ في الناس انتسابا وإما أن ينظر الجيل إلى هذه الأمة التي تنكرت لعظمائها نظرة انتقاد واعتراض، فينقم على ذلك المجتمع، ويشعر أنه مجتمع فاسد منهار.
وكلا الأمرين خطب عظيم.
إنه ليس من مصلحة الأمة في سابقها، ولا في حاضرها، ومستقبلها أن تتنكر لعظمائها، وفي الوقت الذي ننادي نحن وغيرنا بتبجيل شخصية كشخصية ابن باز، فإننا لا نعني؛ بل لا نقبل أن يكون هذا مصادرة للكبار الآخرين، والعظماء في كل ميدان، فإن الأمة الإسلامية عاشت فترة الاستبداد الذي يعني: اعتبار الفرد وطحن من سواه، سواء على صعيد السياسة، أو المال، أو على صعيد العلم، أو العمل، أو على صعيد التربية، وآن الأوان أن تعي الأمة أن تعظيم فلان لا يعني الحط من غيره، وأن المجال يتسع لأعداد كبيرة من العظماء، والكبراء، والقادة، والأئمة، وهذا المعنى الكبير العظيم لا بد أن نقرره قولاً وفعلاً.
وأنا إذ أتحدث عن شخصية نُكِنُّ لها جميعاً الحب، والتقدير، كشخصية إمامنا ابن باز وأزيد إلى تأكيد هذا المعنى، تأكيد معنى آخر: وهو أن الأمة ينبغي أن تعي وتتعلم أنها في الوقت التي تحتفي وتحتفل فيه برجل كـ ابن باز، يجب أن يتسع قلبها وصدرها أيضاً لرجال آخرين من أهل العلم، أو الدعوة، أو الإصلاح، أو التعليم، أو التربية، أو سوى ذلك.
فليس الحديث عن شخصية ابن باز مصادرة لشخصية عالم جليل آخر كفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، أو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، أو فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي أو فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أو غيرهم.
فهذه الأمة فيها عظماء كثيرون، وفيها أئمة، وقدوات، (وكابينة) القيادة تتسع لهم جميعاً لأن كل فرد منهم في ثغرة وميدان لا يملؤه غيره ولا يسده سواه.
بل هم وجوه لعملة واحدة إن صح التعبير، ولا يجوز أن يكون ثناؤنا ثناء مغرضاً، فأنا أثني على فلان لكي أعرض بعلان، كلا.
بل أنا أثني على فلان فأتحدث عنه كما لو لم يكن أمام ناظري غيره.
وقد أثني في موضع آخر على شخص آخر ممن يستحق الثناء فأتحدث عنه بالطريقة ذاتها، وليس الثناء مقصوداً لذاته وإنما الثناء كما سبق ثناء للجيل، ثناء لهؤلاء الشباب الذين ينتظرون القدوة التي يمشون وراءها.