إن تجاهل هؤلاء السادة في أجهزة الإعلام العالمية، والعربية، والمحلية، أمر خطير، لأنه يفسح المجال للثناء على رموز الحداثة، وأساطين العلمنة، ودهاقنة التسول الفكري، ويجعلهم هم القدوة والأسوة للشباب.
فإن الإنسان بطبعه لا بد أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً يعتبره في موضع الأسوة والقدوة، ويستفيد من علمه وأدبه وخلقه، والله تعالى حينما أنزل الكتاب بعث الرسول أيضاً، والرسول عليه الصلاة والسلام ربَّى أشخاصاً نقلوا هديه ودينه إلى من بعدهم.
فكان ابن مسعود يربي في العراق، وكان ابن عباس يربي في الحجاز، وكان معاذ وأبو موسى يربيان في اليمن، وكان جابر، وكان فلان، وكان فلان فالجيل إذا فقد القدوة في الرجال الذين هم أهلٌ لأن ينظر في هديهم، ويقتدى بهم، فإنه سوف يلتمس القدوة من ذلك الأديب، أو الشاعر، أو المتحدث، أو الناقد الذي قد يكون منحرفاً في فكره، أو في اتجاهه، أو في خلقه، أو في سلوكه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في تقديمه للجيل على أنه نموذج ورمز.
خاصة ونحن نجد أن أرباب الفكر المنحرف يتبادلون ثناءً مغرضاً فيما بينهم، فكل واحد منهم يتحدث عن الآخرين، ويثني، ويطري، ويقدمهم للجيل.
يقدم أعمالهم وإنجازاتهم، وكتبهم، وقصائدهم على أنها نموذج للأدب، والثقافة والوطنية، نموذج للقوة والصبر، فينشأ الشاب يقرأ الجريدة فيجد فيها ثناءً على فلان من الناس ذلك الأديب الكبير.
ويطالع المجلة فيجد فيها نقداً للديوان رقم عشرة أو عشرين للشاعر الوطني فلان، ويسمع الإذاعة فيجد فيها مقابلة مع الدبلوماسي الكبير فلان.
وهكذا يصبح الجيل نهباً لمثل هذه الشخصيات.
وقل مثل ذلك في رموز الفن والرياضة الذين مع كثرة الطرق على أشخاصهم، يصبح الصغير والكبير ينام ويصحو على الإعجاب بأشخاصهم، وتقفي سيرهم وخطاهم، وأن يتمنى أن يكون واحداً منهم.
إن هؤلاء الرجال الذين نطريهم رجالٌ برزوا يوم لم يكن في الساحة هذا الزخم الهائل من أولياء الإسلام، ودعاته، وشبابه، ورجاله، بل برزوا في وقت كثرت فيه قالة السوء، وانتشر فيه دعاة الضلالة، وبرزت فيه الدعوات القومية والبعثية وغيرها، وكان الواحد منهم صبوراً دءوباً على رغم قلة الناصر، والمعين، والمتلقي.
وبعض من ذكرت من الأئمة كان يجلس في حلقته فلا يأتي إليه إلا أربعة رجال، فإذا قرأ الواحد منهم نصيبه قام من الحلقة، ليس لديه وقت أن يجلس إلى نهايتها وإنما يقرأ ثم يذهب إلى عمله.
وآخر يجلس في وقت الظهيرة يثني رجليه في شدة الحر يوم لم يكن ثَمَّ مكيفات، فلا يجلس عنده إلا أفراد قلائل ممن لا شأن لهم، ولا وزن لهم في نظر الناس، ومع ذلك صبّروا أنفسهم كما أمر الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] ودأبوا، وضحوا، واستمروا ثم رأوا طلائع هذه الصحوة المباركة، وهذا الإقبال الكبير، وازدحمت حلقاتهم العلمية بالطلاب، وتكاثر حولهم المتلقون، واحتفلت الأمة بهم فلم يتغير من أمرهم شيء؛ لأن الدعوة التي يحملون هي واحدة يقولونها في حال الإقبال كما يقولونها في حال الإدبار.
وهذه ميزة من أبرز الميزات.
فليس الفخر لأولئك الذين ظهرت أصواتهم وارتفعت في وهج الإقبال والاندفاع نحو الإسلام، وإنما العجب من أولئك الذين وفوا، وصبروا، وجاهدوا، وأعرضوا عن الدنيا يوم أن لم يكن في الساحة غيرهم.
فجدير بنا أن نؤدي بعض حقهم الواجب في أعناقنا بعد أن عرفنا ريادتهم وسبقهم في هذا الميدان الواسع الطويل.