السبب الثاني: الاستبداد والفردية في الرأي، وزوال الشورى:- وذلك أن الله عز وجل أعطى كل إنسان عقلاً وفهماً وإنسانية وشخصية، فإذا أهدرتَ عقلَ الإنسان أو شخصيتَه، فإنه لا ينفعه أن تعطيه الدنيا كلها، أرأيت إنساناً تزدري عقلَه وتحتقرَه وتهينَه، أو تستخفَّ به، أو تعاملَه بخلقٍ سيء، هل ينفعك معه أن تعطيه المال الكثير الوفير؟! هذا لا ينفعه أبداً.
ولذلك يُقال: إن فرعون الطاغية المتجبر، المتأله الذي كان يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] كان يقال: إن فرعون باذخاً في العطاء والإنفاق على الفقراء والمحتاجين والمساكين والمُعْدَمين، إذ كان يعطيهم في كل سنة مائتي ألف دينار فرعوني، يخصِّص هذا للفقراء والمساكين والمحتاجين، ويخصِّص مثلها لرجال الملة والدين -رجال دينهم- الذين يقومون بتعليم الناس طقوسَهم وعباداتهم، ويخصِّص مثلها لذوي الحاجات ومن تنزل بهم الفاقة، وكان يعطي عطاءاً كبيراً، وكان يحضر على مأدبته ووليمته أعداد غفيرة من الناس؛ يكرمهم ويطعمهم، ويجعل لكل فرد منهم ألواناً خاصة من الطعام، حتى يأكل منها ما يشاء ويدع ما يشاء.
ومع ذلك كان الناس يكرهونه، وآلَ أمْرُه إلى الزوال والفناء، لماذا؟ لأنه استخف بعقول الناس واستبد، وصادر حرياتهم الدينية وحرياتهم الفكرية.
فأما بالنسبة للحرية الدينية: فكان يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وكان يدَّعي أنه يجري في عروقه دمٌ إلهي، وأن على الناس -كلهم- أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً! وأما بالنسبة للحريات؛ حرية الفكر، والرأي، والمشورة: فإنه كان يقول لهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فأصبح ليس هناك رأي، ولا مشورة، ولا تفكير، إلا بما يقوله فرعون نفسه، وما يمليه على مَن حولَه، وكان يتهدد كلَّ مَن يخالفه بالرأي، ويأتي برأي غير رأيه، أو مذهب غير مذهبه، أو يجتهد في أمر بخلاف ما يريده فرعون؛ بالقتل والسجن، ولذلك قال لموسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] والمعنى: المسجونون كثيرون، لكن أنت ستكون منهم إن خالفت ما آمرك به، وما أمليه عليك.
ولذلك نلاحظ أن الحكومات الدينية الشرعية كانت تهتم بالشورى، فالحكومة التي أقام بنيانها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تقوم على الشورى، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ولذلك لم يكن أحدٌ أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى أيده بالوحي، وكثيراً ما كان يقول: {أشيروا علي أيها الناس} ومن ذلك ما حصل في معركة بدر، وفي معركة أحد، وفي صلح الحديبية، وغيرها من المناسبات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من مشاورة أصحابه؛ وذلك ليعلمهم المشورة من بعده.
ولذلك لما تولى أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية المؤمنين، كانت حكوماتهم حكومات شوروية، لا ديمقراطية -كما يقولون بلسان العصر الحاضر-.
فكانت حكومات شورية، ربانية، على منهاج النبوة، ولم تكن حكومات استبدادية يقول فيها القائل: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فكان كل فرد يشعر بأن الرأي رأيه؛ إذا تشاوروا في الأمر، فإن كان صواباً فالحمد لله، وإن كان خطأ لم يُلْقُوا باللوم على الحاكم، ويقولون: استأثرت بالأمر دوننا، وفعلت هذا الأمر بمحض رأيك، ولو أخذت رأينا لخالفناك، وبَيَّنَّا لك وجه الصواب؛ لا يقولون له ذلك؛ لأن الرأي صدر عن مداورة ومشاورة بينهم جميعاً، ولهذا كان لها من النفوذ والقوة والبقاء الشيء الكثير.
ويكفي أن نقول: إن الحكومة الشرعية الدينية ظلت باقية قروناً طويلة.
صحيحٌ أن الدول تغيرت من الخلافة الراشدة، إلى الأمويين، إلى العباسيين، إلى العثمانيين، لكنها كلها كانت حكومات تقوم على أساس الحكم بالشرع.
ولم تقم دولة من الدول في عصر من العصور السابقة كلها تنادي بحكم غير حكم الله ورسوله قط، بل كانت تقوم على أساس الشريعة الإسلامية.
وحين دب إلى الدولة العثمانية الاستبداد، وطغى خلفاؤها المتأخرون، ثارت عليهم الثورات في كل مكان، ولم يفدهم بعد ذلك أنهم أعلنوا الدستور، وجعلوا هناك ما يسمونه بمجلس الشورى، أو مجلس نيابي شكلي يختارون فيه أفراداً يعيِّنونهم، لم ينفعهم ذلك، فسقطت دولتهم لأسباب كثيرة من أهمها: إهمال الشورى، وضياع الحياة الدستورية الصحيحة في بلادهم.
وقل مثل ذلك بالنسبة للدول المعاصرة، فنحن نشهد في هذه الأيام سقوط الشيوعية في عدد من الدول التي حكمتها عشرات السنين، فسقطت هذه الدول التي هي مدججة بالحديد والنار والاستخبارات والقوة الأمنية، ومع ذلك سقطت أمام تيارات الجماهير التي تصرخ وتنادي بحريتها في عدد من البلاد، بل أصبحت تتهاوى كما تتهاوى لَبِنات البناء المتهالك القديم إذا تعرض لإعصار شديد أو لضربة قاضية!! وهاهي روسيا التي هي أم الشيوعية، والتي شهدت ميلاد أول دولة شيوعية، هاهي الآن تدرك أن من أهم أسرار التهاوي: هو أن الحكم الشيوعي حكمٌ استبدادي، يؤمِن بحكم الحزب الواحد، والفرد الواحد، ويدمِّر قيمة الفرد، فليس له تملُّك أو رأي، أو اختيار؛ بل هو مجرد تِرْس في آلة، وبذلك قضوا على حرية الفرد وشخصيته، فيحاولون أن يعيدوا ما أفسدوا الآن في روسيا، وهكذا انشغلوا بهمومهم الداخلية عن الهموم الخارجية.
فسقوط الشيوعية منبئ عن أهمية الشورى، ومعرفة قيمة الفرد، وأن كل دولة تقوم على الحديد والنار، وتبطش بالناس، فإنها آيلةٌ للزوال والفناء؛ فالقوة لا بقاء لها.
وهكذا الشأن في نظام شاه إيران، النظام الفاسد الهالك.
فإن شاه إيران كان يحكم الناس بالسلطة والحديد والنار والقوة، وكان نظام المخابرات عنده المعروف بنظام (السافاك) يلاحق خصوم النظام في الداخل والخارج، ويلتقطهم واحداً بعد آخر، وينكل بهم شر تنكيل، وكان شاه إيران يحلم بإقامة امبراطورية فارسية، ويعيش على هذه الآمال العريضة، وما هي إلا أيام حتى ضج الناس من بطشه وطغيانه، فلما سمعوا بالثورة الإيرانية التي يقودها الخميني الهالك، وتناقلوا أشرطته التي كانت تندد بما يسميه (الشاهٍ شاه) الذي يحاول أن يستأثر بالملك، بل يحاول أن ينازع الله تعالى في ملكه، فيتشبه به بهذا الاسم ملك الأملاك (شاهٍ شاه) ولا مَلِك إلا الله، وكانت أشرطته تمشي في شوارع إيران، وهي تفعل في الناس كما تفعل النيران بالأشياء المتهالكة والهشيم! وما هي إلا أيام وشهور حتى زال الشاه، وخرج من ملكه، ثم ورثه بعد ذلك وجاء من بعده: شاهٌ آخر، لَبِسَ جُبة وعمامة، ولكنه عاد إلى الأساليب نفسها التي سلكها سلفه، ولذلك فإن السُّنَّة الإلهية لابد أن تمضي على ما يسمونه بالجمهورية الإسلامية، كما مضت على جمهورية شاه إيران من قبل، ولابد أن تزول بنفس السبب، وهو سلوكهم أسلوب الدكتاتورية والتسلط والحكم الفردي، وأخذ الناس بقوة الحديد والنار: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] بالأسلوب الفرعوني في الحكم.
وفي مقابل ذلك، فإننا نجد الأنظمة الغربية الآن في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، إذا أردنا أن نكون واقعيين وصرحاء؛ فإن هذه الأنظمة أكثر استقراراً من الأنظمة الشيوعية بلا شك، وأكثر استقراراً من الأنظمة العربية والإسلامية المعاصرة كلها.
وليس ذلك لأن الأنظمة الغربية تقوم على مبدأ كلا! بل إن الأنظمة الغربية لا تقوم على مبدأ، فهي ليست أنظمة دينية، بل هي أنظمة علمانية.
ولذلك في أمريكا -مثلاً- يمنعون من تعليق صور المسيح في المدارس والمؤسسات الحكومية، ونحن المسلمون نعرف أن الصور ممنوعة، وتصوير الأنبياء والصالحين وتعليقها شرك يؤدي إلى عبادتهم، وكذلك سائر العظماء، بل تعليق الصور مطلقاً لا يجوز، وموقفنا من التصوير واضح، لكن النصارى أنفسهم يعتبرون الصور رمزاً لدين وعبادة عندهم؛ لذلك يعلقون الصور في الكنائس والمعابد؛ لكن أصدرت الحكومات أوامر بمنع تعليق صور المسيح وأمِّه في المدارس والمؤسسات، لماذا؟ لأنهم يقولون: نحن دولة علمانية، لا نريد أن ينشأ الأولاد عندنا في المدارس على التَّديُّن بدين معين، أو تعظيم شخص معين؛ فالذي يريد الدين يذهب إلى الكنيسة.
فهذه دول علمانية، كذلك هي دول ليس لها مبدأ معين، إنما مبدؤها المادة والمصلحة، ومع ذلك فهي حكومات ودول مستقرة إلى حد بعيد، لماذا؟ لأنها حكومات لم تقم على منهج الحكم الديكتاتوري المتسلط، بل هي أعلنت ما تسميه -هي- بالحكم الديمقراطي، وهم يقصدون بالحكم الديمقراطي: أن الفرد هو مصدر السلطات، فالإنسان المواطن هو مصدر السلطة عندهم، لماذا؟ لأنه لا يوجد عندهم دين، فالسلطة، والحرام والحلال هو ما أحله أو حرمه الشعب عندهم، وكذلك الأنظمة هي ما تختارها الشعوب، ويسمون ذلك بالديمقراطية.
وبغض النظر عن موقف الإسلام من هذا النظام، وأن الإسلام لا يعتبر أن الأمة مصدر السلطات، بل إن القرآن والسنة هما مصدر السلطات، إذا قصدنا بالسلطات: الشرائع، والأحكام، والحلال، والحرام، فإن الإسلام لاشك يؤمن بقيمة الفرد؛ ولذلك فإن الحكومة التي تهتم بالفرد وتعطي الفرد عناية واهتماماً، وتأخذ رأيه هي أولى بالبقاء والاستمرار من تلك الحكومة التي تهدر قيمة الفرد، وتحكمه بالحديد والنار، وتسلك الطريقة الفرعونية في الحكم: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] .
فهذه الدول الغربية الديمقراطية الانتخابية في أمريكا، و