والسبب الثالث من أسباب سقوط الدول، هو: سوء اختيار الأعوان:- ولعل هذا من آثار الاستبداد، فإن الطاغية المستبد تعوَّد ألا يسمع كلام نقد أو ملاحظة، تعوَّد أن يسمع كلام الثناء، ولذلك يختار الناس الذين يثق بأنهم سوف يكونون معه على طول الطريق.
ومن الطرائف والنكت التي تناولتها الصحف في يوم من الأيام، هي نكتة يضحك منها الناس، لكنها في الجانب الآخر تشبه الحقيقة التي تُعَايَش في البلاد الإسلامية، تعرفون أن جمال عبد الناصر حكم دهراً، وضحك على الناس وقتاً، واستخف بعقولهم وعواطفهم، وأودع من يخالفه في الرأي في غياهب السجون، وكان مِن أول ضحاياه زملاؤه في الثورة، ممن يسمونهم بالضباط الأحرار، ثم قضى على الدعاة والعلماء والمسلمين، ونصب لهم المشانق.
فالمهم: مِن النكت التي كانت تتداولها الصحف وقت جمال عبد الناصر، يقولون: إنه زار حديقة الحيوان، فمر على حمار، فوقف عنده - قلت لكم: إنها أسطورة، لكن لها معنى مثل قصص كليلة ودمنة- قال له: من الذي جعلك في هذا المكان؟ قال له: وضعوني فيه فجلست، قال: ماذا تأكل؟ قال: آكل ما يقدم لي، قال: ماذا تشرب؟ قال: أشرب ما يقدم لي، قال: ومتى تخرج؟ قال: إذا فتح الباب.
والمهم: أنه كلما سأله عن شيء بيَّن أنه مطيع، إذا أُمِر بشيء نفَّذ، وإذا نُهي عن شيء انتهى، وإذا قدم له شيء أكله، وإذا مُنع من شيء امتنع، فقال لمن حوله: إن هذا يصلح عضواً في مجلس الشعب، اذهبوا به إلى مجلس الشعب، أي: أنه يختار ممن حوله أعواناً إذا قال شيئاً أمَّنوا على ما يقول؛ لأنه تعود ألا يسمع رأياً مخالفاً، ولذلك ينفعل، ويطير صوابه، إذا سمع صوتاً يقول له كلمة الحق، لأنه ما تعود.
وأذكر أننا سمعنا -جميعاً- في الإذاعة، أن الزعيم الهالك -زعيم مصر السابق- كان في إحدى الاحتفالات يتكلم، فقام إليه أحد الشباب، وسُمِع هذا في الإذاعة؛ لأن الحفل كان يُنْقل على الهواء، فسمعناه في الإذاعة وهو يقول: أنا أبو الأسرة المصرية، ونحن أسرة واحدة.
فقام وقال له بلهجته المعتادة: (إزَّاي) -كيف تقول- إننا في دولة العلم والإيمان، وأنت قد أبعدت المؤمنين والصادقين، وقربت المنافقين، وفصلت الخطباء الذين يقولون كلمة الحق، وانطلق هذا الشاب كالسيل الهادر يتكلم بشجاعة وجرأة، فبُهِت الرجل وانزعج! وجلس فترة لا يكاد يستطيع أن يتكلم، فوجئ بما لم يكن له في حسابه، وانشدت أعصابُه، وبعدما استرد شيئاً من هدوئه تكلم بكلمات شديدة غليظة تدل على التشنج والانفعال، لماذا؟ لأنه ما تعود أن يسمع هذا الكلام من أقرب الناس إليه من الوزراء ورجال الدولة، فضلاً عن أن يسمعه من مواطن عادي.
فالطاغية المستبد تعود ألا يسمع إلا ما يوافقه: ما تقوله أنت هو عين الصواب، وما تراه هو الحق، وما تقترحه فلا خير ولا عزة ولا مصلحة للأمة إلا فيه، تعود هذا الكلام، ولذلك تحجب عنه الحقائق من خلال هؤلاء الأعوان، يختار أعواناً بيده يحجبون عنه الحقائق، وما يعانيه الناس من آلام وما يعانيه الناس من فقر، ويحجبون عنه ما يعانيه الناس من كبتٍ للحريات وما يعانيه الناس من اضطهاد ومن تسلط الأمراء والوزراء والولاة عليهم، ويقولون له: إن كل شيء على ما يرام، فيرتاح لهم ويقربهم ويُدنِيهم.
فإذا جاءه إنسان آخر ناصح، وقال له: إن الأمور على عكس ما يقال لك، وإنه يوجد في مكان كذا مضايقات، والطاغية الفلاني يؤذي الناس، والحاكم الفلاني يعتدي على الأعراض، وفلان ينهب الأموال، وفلان يأخذ كذا؛ فإنه يكره هذا الناصح؛ ويبغضه ويقصيه ويبعده؛ لأنه عكر مزاجه، وقال له كلاماً لم يتعود أن يسمعه.
ولذلك فإنه -من جهة- يكون من أهم أسباب زوال الدولة وفسادها: أن الطاغية المستبد يبعد المؤمنين الصادقين الناصحين ويقرب المنافقين.
ومن جهة أخرى، فإنه في كثير من الأحيان يكون المقياس الذي يقرب به الأفراد، ويولَّوْن المسئوليات والمناصب، ويكونون أعواناً، يكون مقياساً مختلاً، فإن المقياس الصحيح هو الكفاءة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فإذا وجد في إنسان قوةٌ وأمانةٌ في كل شيء بحسبه، أصبح صالحاً للولاية في مجاله، ولكن قد يختل هذا الميزان -أحياناً- وتصبح القضية أن هذا يولَّى لأنه من قبيلة كذا، أومن بلد كذا، أو لأمر من الأمور، أو لمصلحة من المصالح، أو لمراعاة شيء ما.
ولو جردتَ هذا الإنسان من اسمه، وجردتَه من نسبه، وجردتَه من شرفه، لأصبح لا يصلح أن يكون أميراً على اثنين، أو والياً على أدنى ولاية! ليس لديه عقل راجح يُمدح به، ولا بصر نافذ، ولا خلق حسن، ولا تجربة تنضجه! كل ما في الأمر أنه يملك شرفاً أو سؤدداً أو مكانة معينة، فأصبح بها أهلاً للولاية، فلو جردته من هذا الشرف، أو النسب، أو السؤدد لوجدته شخصاً عادياً، أو في كثير من الأحيان أقل من العادي.
ولذلك قد يصل الأمر في كثير من عصور التاريخ الإسلامي إلى ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: إمرة الصبيان، وإمرة السفهاء، فقد يولى على المسلمين صبي عمره أربع عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، أما عشرون سنة، وخمس وعشرون، وثلاثون، فهذا -والله المستعان- حدِّث عنه ولا حرج، في كل زمان وفي كل مكان، لكن في كثير من العصور كان يحكم المسلمين أمير عمره أربعة عشر عاماً، لماذا؟ لأنه مات أبوه، ولم يبقَ إلا هو، وتكون أمه هي التي تدير أمور الولاية باسم هذا الصبي الصغير، وتدير أمور الحكم.
حتى أن أحد العلماء كتب كتاباً فيمن ولِّي بلاد الإسلام قبل بلوغ الاحتلام، فعدد الذين تولوا السلطة في بلاد الإسلام قبل أن يبلغوا الحلم، فقبل أن يصل الواحد منهم إلى سن الخامسة عشرة يصبح أميراً، أو خليفة مشاراً إليه بالبنان، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من إمرة الصبيان، كما قال أبو هريرة: [[أعوذ بالله أن تدركني سنة ستين أو أمرة الصبيان]] .
وذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من إمرة الصبيان؛ لأن الصبي ليس لديه خبرة، فيأتيه كريم قوم، ويأتيه عزيز، أو شيخ قبيلة، أو إمام، أو عالم جليل، أو ذو مكانة، فلا يأبه به، ولا يكترث له، بل قد يهينه، ويتكلم عليه بالكلام البذيء، وقد يعتدي عليه، وقد يسقط حقه، ولا يعرف لذي قدر قدره، ولا لذي مكانة مكانته.
في حين إذا جاءه بعض السفهاء الذين يسرون عن خاطره بالنكت والطرائف، ويتكلمون معه بالكلام، فإنه يقربهم ويدنيهم، ويأخذ مشورتهم ورأيهم.
ومما يروى عن كسرى أنو شروان وهو أحد ملوك فارس، أنه كان يقول: الملك بالأعوان.
انظر! كيف تَخْرُج الحِكَمُ حتى من أفواه الكفار الذين خبروا الأمور وجربوها.
يقول: الملك بالأعوان، لأن الحاكم مهما كان، فليس كالشمس سيشرق على الدنيا كلها، وإنما يستطيع أن يعرف الأحوال بالأعوان، (فالملك بالأعوان، والأعوان بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالرعية، والرعية بالعمارة، والعمارة بالعدل) لاحظ هذا التسلسل، تجد أنه ينطبق انطباقاً تاماً على الواقع.
ولذلك يقول أبو مسلم الخراساني، وقد سئل عن سبب سقوط دولة بني أمية، يقول: لأن دولة بني أمية قرَّبت الأعداء، حتى تأمَنَ شرَّهم، وأبعدت الأصدقاء ثقةً بهم، فقرَّبت الأعداء لتأمَنَ شرهم، فإذا وجدوا شخصاً يخافون منه؛ أعطوه ولاية، وأعطوه منصباً؛ حتى يأمنوا شره، وأبعدوا الأصدقاء ثقة بهم، واتكلوا على حسن الثقة بينهم وبينهم، فأبعدوا الأصدقاء، يقول: فلم يتحول العدو إلى صديق، بل تحول الصديق إلى عدو، والعدو بقي على عدوانه، واستغل منصبه في تحقيق مطامعه، لكن الصديق الذي يمكن أن تصطنعه وتوليه وتثق به تحول إلى عدو؛ لأنه رآك أبعدته، وقربت أعداءك ومناوئيك.
وهكذا الشأن في كثير من الدول، فبعض الدول يكون فيها أحزاب منحلة منحرفة، أحزاب علمانية، أو بعثية، أو قومية، أو يسارية، أو شيوعية، فهذه الدول تريد أن تأمن شر هذه الأحزاب وتحتويها، فتحاول أن تعطيهم بعض المناصب والوزارات والولايات، وتقربهم، وتشاورهم في بعض الأمور، وتظن أنها بذلك سحبت البغضاء والعداوة من قلوبهم، ولا تدري أن هؤلاء لا يزالون يتغلغلون ويتخلخلون ويتآمرون؛ حتى يقتحموا ويسقطوا هذه الدولة أو تلك بما مكنت لهم وأعطتهم في الوقت الذي لا يكون لها أنصار؛ لأن الأنصار الحقيقيين الذين كانوا أعواناً لها لم تخف الدولة منهم، ولذلك لم تعطهم المناصب والولايات، ولم تأخذ برأيهم في النوازل والملمات.