السبب الرابع: الظلم:- ورُبَّ دعوة مظلوم تُسقِط دولة؛ ولذلك جاء في الحديث: {اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} وجاء في مسند الإمام أحمد وغيره بسند حسن: {اتق دعوة المظلوم ولو فاجراً -وفي رواية ولو كافراً-} ففجوره على نفسه، فإن الظلم من أعظم أسباب زوال الدول، ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
فالعدل أساس الملك -كما يقال- وكثيراً ما تجد سبب زوال دولة ظلم، إما ظلم عام، أو ظلم خاص.
فمن الظلم العام -مثلاً-: نهب أموال الرعية، وأخذ أراضيهم، والمحسوبية في الشركات والأعمال والوظائف وغيرها.
ومن أنواع الظلم: التفاوت والطبقية في الناس، بحيث إنه إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف تركوه، فكأن هناك أناساً يجري في عروقهم دم مقدس، إن سرقوا، أو زنوا، أو فجروا، لا تقام عليهم الحدود، فيتركون وربما يؤدبون بأدب معين، كأن يسجن، أو يوبخ، أو يجرد من منصبه، أو ما أشبه ذلك، لكن لا يقام عليه حد وحكم الله تعالى، فإذا سرق ضعيف من سائر الناس، فإنه يقام عليه الحد؛ فهذا من الظلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أسباب هلاك الأمم، فلما كُلِّم في المخزومية التي سرقت قال صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه -وفي رواية أقاموا عليه الحد- وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} إلى هذا الحد بلغ العدل، حتى مع أقرب الناس.
والعدل -أيها الأحبة- ليس مجرد تهريج وخداع وتضليل للناس، فأحياناً بعض الحكام يريد أن يتظاهر بالعدل، فيصنع مناورة في جهاز من أجهزة إعلامه، يضحك بها على الخلق، ويخيل إليه أن الناس غُفَّل وسذج، يصدقون ما يقول.
وأذكر -على سبيل المثال- أن أحد الحكام في دولة عربية -ولا يزال موجوداً- في يوم من الأيام كان له ولد يقوم على جهاز من أجهزة الأمن، هو المسئول عن استخبارات بلده، فهذا الولد كان كأبيه سفاكاً للدماء قتالاً، فقتل مجموعة من الناس، ومن ضمن من قتل رجل كان خادماً عند أبيه، وسأل: أين فلان؟ فقيل له: قتله ولدك فلان! فغضب وهاج وماج، ووجد أهل القتيل غاضبين لماذا يقتل وهو يعمل في بلاط الرئيس؟! إلى غير ذلك، فأراد الحاكم أن يصنع موقفاً يضحك به على عقول البلهاء والسُذَّج، فأعلن أنه سوف يقتل ولده، وشاع هذا في أجهزة الإعلام، حتى في أجهزة إعلامنا هنا نشر الخبر، أن الرئيس سوف يقتل ولده قصاصاً، ما شاء الله تبارك الله! إلى هذا الحد العدلُ؟! لكن تدخل أهل القتيل، وأعلنوا للرئيس أننا نحن متنازلون، وولدك في الواقع ولدٌ لنا، وقتلك له قتل لنا، ونحن نتنازل عن دم ولدنا، ونريد أن تحقن دم ولدك الذي قَتل، وهكذا حقن دم ولده، وأعاده إلى عمله! فهذه ألعوبة، ليس هذا هو العدل، العدل هو أن يكون الحاكم يجري الأحوال والأمور والحدود والأحكام على القريب والبعيد والعالي والنازل والشريف والوضيع على حد سواء، وإلا فليأذن بزوال مملكته ودولته عاجلاً غير آجل.
وأذكر لكم قصة شهدتها بلاد الأندلس، وهي تدل على أثر الظلم في زوال الدول واضمحلالها.
كان هناك رجل اسمه المعتمد بن عباد حاكماً لبعض هذه الولايات، وكان رجلاً شجاعاً قوياً كريماً طموحاً فيه من خصال الخير ما فيه، ولكن كان فيه ترف وبذخ وإسراف في تضييع الأموال، استعان به رجل من بني جهور، قد هاجمته قوة مجاورة، فاستعان بـ المعتمد بن عباد وقال له: تعال، احمِ دولتي من الغازي الذي هو ابن ذي النون، الذي يريد أن يقضي على مملكتي.
فجاء المعتمد بن عباد ليساعد ابن جهور ويحمي دولته، جاء بجيش قوي كثيف، ومعه جنده وأعوانه، فصار على حدود مملكة بني جهور، فلما رأى ابن ذي النون الغازي هذا الجيش انسحب وهرب.
إذاً المهمة التي جاء من أجلها المعتمد بن عباد انتهت، والجيش الذي أتى ليطرده قد هرب بنفسه.
وخرج الحاكم من بني جهور في الصباح الباكر ليودع جيش المعتمد بن عباد، ويشكرهم على نجدتهم وعونهم، فلم يرعَ إلا والمعتمد بن عباد قد بثَّ جيوشه في المدينة وحوالي القصر، وجعل الشرطة في كل مكان، واحتل المدينة! وكما يقولون -بلغة العصر الحاضر-: اجتاحها، اجتاح المدينة وسيطر عليها تماماً كما فعل العراق بالكويت؟! في صبيحة يوم لم يكن يخطر ببالهم شيء من ذلك!! فالجيش جاء ليحمي المدينة وإذا به يحتل المدينة! فأصيب الحاكم من بني جهور بصدمة عنيفة، وقبض عليه، وقبض على والده، وكان والده قد أصيب بالفالج "الشلل النصفي" ومالَ شدقُه، ومات شقه، وكان يعيش حالة صعبة.
فقُبض عليه، وأخذت أموالُه، وأودع أولاده في السجن، أخذ عَبيدَه، وسُبِيت زوجاتُه، ثم أخرج من المدينة بهذه الصورة، ونفي إلى مدينة أخرى، فكان أبو الملك وهو الذي أصيب بالفالج، ومال شدقه، كان يقول لولده: -والله- إن هذا لأثر دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس.
يقصد الذي أصابنا.
ثم رفع الأب المشلول بصره إلى السماء، وقال: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا، فانتقم لنا من الظالمين، إذاً الآن الدور واقف على المعتمد بن عباد.
وظل المعتمد بن عباد في ملكه فترة، حتى اجتاحت مُلْكَه دولة المرابطين، وأسر المعتمد بن عباد، وأخذت أمواله، وأخذ أولاده، وقَضَى حياته في أغمات في مدينة بالمغرب أسيراً أثقلت القيود يديه ورجليه، ومات في السجن! وكانت بناتُه بالأمس (بنات الملك) لهن من الترف ما سوف أذكره لكم في قصة طريفة بعد قليل، فأصبحت بناتُه يشتغلن بالغزل في الشوارع، يَغْزِلْنَ للناس، حتى إن إحدى بناته وقفت في يوم من الأيام تغزل لرجل، فلما نظرت إلى هذا الرجل كان أحد العرفاء -أحد الشرطة- عند والدها! تغزل له مقابل مبلغ يسير من المال تقتات به، وتطعم والدها الذي أصبح في السجن! فانتقم الله تعالى أيضاً من المعتمد بن عباد، كما انتقم قبل من بني جهور إذاً كم من دعوة مظلوم أسقطت دولة! والعدل أساس الملك.