النص السابع: في الذين يأخذون من الشرع ما يوافق هواهم

النص السابع: هو ما ذكره الله عز وجل حين قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] فوصفهم بالمسارعة إلى الكفر وإن ادّعوا الإيمان، {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] ثم بَيَّنَ الله عز وجل ما سبب نفي الإيمان عنهم، وإثبات الكفر والمسارعة في الكفر لهم، بينّه بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] وهذه الكلمة يبين معناها سبب نزول الآية: فالسبب الأول: هو ما رواه: مسلم، وأبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بيهودي محمَّماً مجلوداً -أي أن يهودياً من اليهود زنا، فقام اليهود وصَبَغوا وجهه باللون الأسود، وجلدوه ووضعوه هو والمرأة التي زنا بها على حمار، وجوه بعضهم إلى بعض، ومَشَوا بهم في الشوارع من باب التشهير والنكاية بهم، فمَرَّ اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموكب المهيب- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود، ودعاهم: {أهكذا تجدون حد الزاني المحصن في كتابكم} ؟ قالوا: نعم هذا حد الزاني المحصن في كتابنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالماً من علمائهم يقال له: ابن صوريّا - وفي بعض الروايات: أنه ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم في بيت المدراس الذين يدرسون فيه الكتاب فقال لهذا العالم: {أنشدك الله أو أنشدك بالله الذي نزّل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا! ولولا أنك ناشدتني بهذه النِشدة ما أخبرتك، -ثم بين هذا اليهودي ما هو السبب في نقضهم لحكم الله ورسوله- فقال: ولكنه كثر في أشرافنا -هذه رواية مسلم، يعني: الزنا- ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا وجدنا الشريف يزني جلدناه، وإذا وجدنا الضعيف يزني أقمنا عليه الحد -وهو الرجم- فطال ذلك، حتى قلنا: تعالوا نتفق على حكم نقيمه على الشريف والوضيع، فاتفقوا على الجلد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه ثم أمر بهما فرجما، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: فلقد رأيت هذا اليهودي يجنأ عليها} : يحميها بنفسه من الحجارة.

إذاً: قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة:41] : يعني إن أوتيتم الحكم بالجلد، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أوتيتم الحكم بالرجم (فَاحْذَرُوا) ، يعني: إن تحاكمتم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فحكم لكم بالجلد، وهو الحكم الأخف، فخذوه واقبلوه؛ لا لأنه حكم الله، ولكن لأنه خفيف يوافق أهواءهم، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل حَكَمَ محمد صلى الله عليه وسلم بالرجم (فَاحْذَرُوا) ولا تأخذوا هذا الحكم! السبب الثاني في نزول هذه الآية أو القول الثاني في سبب نزول هذه الآية هو: ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن اليهود كانوا قبائل، فكانت منهم قبيلة بني النضير وهي قبيلة شريفة عزيزة، وقبيلة بني قريظة وهي قبيلة ذليلة، فكانوا إذا قتل رجل من بني النضير الأعزاء رجلاً من بني قريظة الأذلاء لم يقتلوه به، بل اكتفوا بأن يدوه مائة وسق من تمر، فإن قتل رجل من بني قريظة الأذلاء رجلاً من بني النضير الأعزاء قتلوه به، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حصلت بين اليهود مشكلة أن قتل رجل من بني النضير الأعزاء رجلاً من بني قريظة الأذلاء، فقال أولياء المقتول: هاتوه لنا نقتله، فقالوا: لا! إنما نعطيكم ديته مائة وسق من تمر، فأرادوا التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض -بنو النضير قالوا هذا القول فيما بينهم-: إن حكم لكم محمد بالدية فاقبلوها؛ لأنها أخف، وإن حكم بالقصاص فلا تقبلوه، وهذا الحديث أيضا إسناده صحيح، وقال ابن كثير رحمه الله: يحتمل أن السببين اجتمعا معاً فنزلت الآية فيهما جميعاً، والله أعلم.

المقصود أن الله عز وجل حكم عليهم بأنهم يسارعون في الكفر؛ لأنهم رفضوا حكم الله عز وجل.

ثم بيَّن تبارك وتعالى أنهم ومن كان على شاكلتهم في رفض حكم الله ورسوله قد جمعوا خلالاً ثلاثاً: الخلة الأولى: الكفر بالله عز وجل فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] كافرون؛ لأنهم ستروا الحق -أخفوه وكتموه- وزعموا أن الحكم هو الجلد، وإنما هو الرجم، وهكذا حالهم في كل مسألة أخرى.

الخلة الثانية: أنهم فاسقون؛ لأنهم قد خرجوا عن حكم الله ورسوله إلى طاعة النفس والهوى والشيطان.

الخلة الثالثة: أنهم ظالمون؛ لأنهم حكموا على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وأبشارهم بغير حكم الله ورسوله، وفضلوا بعضهم على بعض بما لم يفضل الله فيه بعضهم على بعض.

وهكذا كل من كان على شاكلتهم فهو من الكافرين الفاسقين الظالمين، وختم السياق بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .

والله أعلم، وصَلَّى الله وسَلَّمَ على عبده ورسوله ونبيه محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015