قصة الصحابة وتحريم الخمر

وما دمنا بصدد الحديث عن المخدرات، فلنأخذ مثلاً آخر من الجيل الأول في قوة الوازع الإيماني عندهم، يتعلق بموضوع هذا الحديث، ألا وهو ما رواه البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان يسقي نفراً من الأنصار الخمر في بيت أبي طلحة - رضي الله عنه - وأبو طلحة هو زوج أم سليم وهي أم أنس بن مالك، فهو زوج أم أنس بن مالك، وكان أنس بن مالك شاباً صغيراً يخدمهم ويسقيهم الخمر قبل أن ينزل تحريمها، وهم مجموعة من الأنصار في منزل أبي طلحة، فبينما هم يتعاطون كئوس الخمر؛ إذا بهم يسمعون مناديا يصرخ في شوارع المدينة: ألا إن الخمر قد حرمت، ألا إن الخمر قد حرمت، حينئذ لم يحدث من هؤلاء أن قالوا: نريد أن نتأكد ونتثبت في صحة المعلومات، ولم يحدث من هؤلاء أن قالوا: هذا المجلس الآن مضى فنكمل ما فيه ثم نتوقف، بل أراقوا الخمور في الحال وأمروا أنساً فأراق الخمر حتى جرت سكك المدينة بالخمور، مجرد بيان يصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ إلى المسلمين كافة يحدث منهم أن يريقوا الخمور في ساعة واحدة، وفي لحظة واحدة، حتى تجرى بها شوارع المدينة من كثرة ما أريق! وهذا يدل على مدى انتشارها في ذلك المجتمع وتعاطيها عندهم بحيث تجرى منها الشوارع، ويدل على مدى تغلغله! وكلنا نعرف كيف كانت الخمر في حياة العرب في الجاهلية، وإذا كان الناس يقولون (الشعر ديوان العرب) فاقرأ أشعار الشعراء الجاهليين، وانظر كيف يتغنون بالخمر، بل اقرأ أشعار الشعراء الإسلاميين وانظر كيف كانوا يتغنون بالخمر في حال جاهليتهم، هذا حسان رضي الله عنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في همزيته عن الخمر حين كانوا يشربونها في الجاهلية: فنشربها فتجعلنا ملوكاًَ وأُسْداً لا يُنْهَنْهَهَا اللقاءُ وهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه يقول عن الخمر -ولعل هذا كان في حال جاهليته-: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ تروي عظامى بعد موتى عروقُها ولا تَدْفننِّي بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها والشاعر الجاهلي يقول: فإذا سكرتُ فإنني ربُّ الخوَرْنَقِ والسديرِ وإذا صحوتُ فإننى ربُّ الشويهةِ والبعيرِ أي أنه يسكر فيعيش في أحلام وخيالات أنه رب الخوَرْنَق والسدير -وهى قصور معروفة لملوك العرب- فهو إذا سكر خُيِّل إليه أنه من الملوك، وأن الدنيا في يده كما قال حسان: فتجعلنا ملوكاً وكل شعراء الجاهلية لهم قصائد خاصة تسمى الخمريات، أو غالبها فيها تَغَنٍّ بالخمر، وبيان مدى تغلغلها في المجتمع العربي آنذاك.

مع هذا كله يأتي بيان يعلن من الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأن الخمر قد حُرِّمَتْ فتراق في شوارع المدينة، حتى إنَّ من كان في يده الكأس منهم كان يريقه، وحتى إنهم لم يكتفوا بإراقة الخمر بل أمروا أنساً أن يكسِّر قنان الخمور وأوانيها، بل من كان الخمر في فمه فإنه يبزقه ولا يشربه، وأعجب في ذلك أنهم بدءوا يفكرون فيمن ماتوا والخمر في أجوافهم قبل أن ينزل تحريمها، فقالوا: قد مات أقوام وهى في أجوافهم؛ فأنزل الله عز وجل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة:93] فبين أنه لا جناح على هؤلاء الذين ماتوا، والخمر في أجوافهم؛ ما دام ذلك كان قبل منعها وتحريمها فمن خلال هذه الأمثلة يتبين لنا دور الوازع الإيماني وأثره، وأثر التربية الوجدانية على الفرد وعلى المجتمع في الوقاية من هذه المخدرات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015