إن تلك الآصار والأغلال التي كانت على الذين من قبلهم، وقد ذكر الله عز وجل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وعلَّمنا في الدعاء أن نقول: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وهذا مجرد مثال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بهذا المثال إلى أن الله عز وجل وضع عنا الآصار والأغلال، ويسر لنا الدين.
ولذلك جاء في الحديث الآخر -حديث حذيفة - أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من ضمن الخصائص التي مُيِّز بها: {أنه أوتي الآيات الأواخر من سورة البقرة} وهذه الآيات فيها قول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] ففيها إشارة إلى رفع الآصار والأغلال عن هذه الأمة، فقوله عليه الصلاة والسلام: {جعلت لي الأرض مسجدا} أي: مكاناً يُصلى فيه؛ ولذلك جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم} .
وفي حديث ابن عباس عند البزار قال: {وكان النبي لا يصلي حتى يبلغ محرابه} أما النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، فإن الواحد منهم إذا أدركته الصلاة صلى حيث كان، فعنده مسجده وعنده طهوره، وكذلك قوله عليه السلام: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} فالمقصود بالطهور: أن التراب مطهر، وهذا يشمل عدة أمور: منها: التيمم؛ وذلك أن الإنسان إذا لم يجد الماء أو خاف الضرر باستعماله جاز له أن يعدل عن الماء في الوضوء أو الغسل إلى التيمم، فيضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ويمسح بها وجهه وكفيه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة وعمار وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهي أحاديث كثيرة جداً، وأجمع العلماء على مضمون هذا الحكم من حيث الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل، فالمهم أن هذا هو معنى قوله: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} لكن حتى غير هذا من الأشياء التي يسِّر فيها الشرع في مسألة الطهور.
فمثلاً: أن الإنسان لو وطئ بنعله أذى أو نجاسة ثم مشى بها على الأرض طهرت بالتراب بدون حاجه أن يغسلها، ولذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد ومالك وغيرهم بسند صحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه يوماً ثم خلع نعاله فخلع الصحابة نعالهم فلما سلم قال: مالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفا فأخبرني أن بهما أذى -أو قذراً- فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه؛ فإن وجد فيهما أذى فليمسحها وليصلِّ فيها} ولم يأمر عليه السلام بغسلها بل اكتفى بمسحها.
في حديث أم سلمة وفي حديث امرأة من بني عبد الأشهل عند أبي داود بسند حسن: {أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لنا إلى طريق المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه} فما يصيب الثوب من الأرض المنتنة إذا مر على الأرض الطيبة زال ما فيه، وكذلك أم سلمة قالت: {سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إني أطيل ذيلي -أي: ثوبي- وأمشي في المكان القذر؟ فقال: عليه الصلاة والسلام يطهره ما بعده} .
وروى أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور} إذاً صور التطهير بالتراب ليست خاصة بالتيمم فقط بل التيمم وغيره، وهذه تشير إلى موضوع التيسير كما ذكرت.
والتيسير له أمثلة ونماذج كثيرة جداً؛ بل إن العلماء رحمهم الله وضعوا قواعد، منها: قول الفقهاء والأصوليين مثلاً: (المشقة تجلب التيسير) وقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، بمعنى: أن الدين ليس فيه عسر ولا حرج ولا شدة، فإنسان لم يجد الماء فالعودة إلى التراب.
مثلاً: إنسان لبس الخفين يمكن أن يمسح عليهما بدلاً من غسل القدمين، وإذا لبس العمامة بشروطها يمكن أن يمسح عليها بدلاً من مسح الرأس، وكذلك إنسان لا يستطيع أن يصلي قائماً صلى قاعداً، وإذا لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنب، وإذا لا يستطيع أومأ إيماء، وهكذا، جميع التكاليف الشرعية والأوامر والنواهي محددة ومربوطة بقدرة الإنسان واستطاعته، وليس فيها عسر ولا حرج ولا مشقة على الناس، وهذا أمر شامل في جوانب العبادات والمعاملات وغيرها، والحديث فيها يحتاج إلى بسط.
وبعض الناس يتوسع في هذا الأمر ويحلل ما حرّم الله بحجة أن الدين يسر، فيقول: الغناء حلال؛ لأن الدين يسر، ومسألة تطويل الثوب لا شيء فيها؛ لأن الدين يسر، وهذه أمور مشهورة، ومنهم من يقول لك: أخذ الفائدة الربوية أمر عادي، والدين يسر فلا داعي إلى أن نشدد في الأمر، ومسألة الأمور المحرمة التي فيها نصوص صريحة ليس لنا دخل فيها، فنقول له: أنتلقى عنك أم نتلقى عن الله والرسول عليه الصلاة والسلام؛ إننا لا نشرع من عند أنفسنا، واليسر إنما هو في أمور معينة نص عليها الشارع، أو في قضايا كلية تعم بها المشقة والبلوى، أما مثل هذه القضايا التي هي مخالفات صريحة لأوامر الله ورسوله فلا كلام فيها لأحد بعد قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمِنٌ في دينه كمخاطر وهذه القواعد والأصول مستنبطة من مثل هذا الحديث، ومن قول الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله جل وعلا: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وغير ذلك من النصوص.