الإيمان بالموت

كلنا مؤمنون بالموت, لكن كم منا من يعمل وهو موقن أن الموت قريب منه غداً أو بعد غد, حتى وإن قلناه بألسنتنا تجد الواحد منا له آمال عريضة في هذه الدنيا, وتجد الشيطان يتدرج بك أيها الإنسان من حال إلى حال, إذا كنت في زراعة أو بناء أو دراسة, كلما أنهيت موسماً قال لك: الموسم القادم، ثم الموسم القادم، ولا يزال الشيطان يدفعك مرحلة بعد مرحلة حتى يموت أكثر الناس وهم في آمال, ما أظن أن هناك أحداً يموت وقد انقطعت آماله من هذه الدنيا, تجد هذا الإنسان يموت وهو يزرع, وذلك يموت وهو يبنى, والثالث يموت وهو يدرس, وكل إنسان في هذه الدنيا معلق بآمال ينتقل من أمل إلى أمل, والقبر له بالمرصاد! الكافر يعرف أنه سيموت، وكما حكى الله تبارك وتعالى عنهم في القرآن أنهم يقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] , فهم يعرفون أنهم سيموتون, بل وسيكونون تراباً, ومع ذلك مرة أخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وهو حديث صحيح-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقبر} .

لقد عَدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بالموت ركناً من أركانه في هذا الحديث، ويؤمن بالموت، هنا أنا أسألك كيف يؤمن بالموت؟ وهل هناك أحد في الدنيا لا يؤمن به؟ بل قال بعض العلماء: حتى الدواب والمواشي تعرف أنها ستموت, كل الدنيا تؤمن بالموت, فما معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله من شروط الإيمان؟ ليس هو الإيمان الذي نردده بألسنتنا، نقول: كلنا نعرف أننا سنموت, وندعو الله بحسن الخاتمة, وإذا سمعنا أن فلاناً مات قلنا: هذا مصير جميع الناس ونهايتهم إلى غير ذلك من الأشياء التي نرددها, ليس هذا هو الإيمان بالموت.

الإيمان بالموت هو أن تعمل والموت نصب عينيك, تفعل الطاعة وأنت تعتقد أن هذا آخر ما سوف تؤديه, تصلى صلاة مودع, وإذا همت نفسك بالمعصية تذكرت الموت فأقلعت عنها؛ لأنك تعرف أن الموت قد يفاجئك وأنت على هذه المعصية.

لكن ضَعُفَ الإيمان بالموت في نفوسنا فصرنا نشيع الموتى غدواً ورواحاً ولا تتحرك والله منا شعرة, ولا تهتز القلوب سبحان الله طغى علينا حب الدنيا, والتعلق بها والأمل حتى صرنا لا نتأثر بهذا المشهد.

والموت من المشاهد المروعة، فنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى جنازة قام -كما في الصحيحين- فقالوا يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال: {إن للموت لفزعات، إن للموت لفزعات} وفى حديث آخر في صحيح مسلم: قالوا: إنها جنازة اليهود, قال: {أليست نفساً} ؟ فالموت مشهد مرعب, لأنه من مشاهد الآخرة نشاهده في الدنيا، لكنا تعودناه وألفناه فصرنا لا نخافه, بل ربما يموت القريب من أقربائنا, فنتأثر لمدة يسيرة أياماً معدودة إن طال التأثر, ثم ينسى هذا الأمر.

فالإيمان بالموت ليس معناه: أن يعرف الإنسان أنه سيقع، بل معناه: أن تعمل الخير وأنت تدرك أن الموت قد يفاجئك, وتترك الشر وأنت تدرك أن الموت قد يفاجئك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015