مثل هذا معرفة الشيطان، فكل الناس يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم, ويدركون أنه عدو لهم, ومع ذلك يقول لكم ربكم سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] , ما هو الفرق بين أول الآية وآخرها؟ ما الفرق بين قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] وبين قوله {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] هو موضوع الكلمة؛ القسم الأول هو علم باللسان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] فالله سبحانه وتعالى يعلم أننا كلنا نعرف هذه العداوة, وأن الشيطان عدو لنا، ونتكلم بألسنتنا بذلك, ونعلم بعقولنا أيضا أنه عدو لنا, فعقب هذا بثمرة هذا العلم, وهو قوله {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] أي: لا تكتفوا بمجرد أن تعرفوا عداوته, حتى تقفوا منه موقف العدو من عدوه, فإذا أمركم بأمر فاعرفوا أن هذا كيد العدو لعدوه فاتركوا هذا الأمر, وإذا ثبطكم عن الطاعة فاعرفوا أن هذا كيده لكم فاستقيموا عليها والزموها واحرصوا عليها.
ففرق بين إنسان يردد بلسانه أن الشيطان عدوي، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وبين إنسان يعرف بقرارة قلبه أن الشيطان عدو مسلط عليه, وأن الشيطان لا يألوه جهداً بالكيد والمكر، وهذا واقع في حياة الناس؛ لو عرفت أن إنساناً من الناس عدو لك, وهو في دائرة من الدوائر الحكومية مثلاً, لقلت: هذا إنسان عدو لي، وحاولت جهدك أن تتقى كيده مكره, وإذا كان لك حاجة فى هذه الدائرة بذلت جهدك، فهكذا العدو مع عدوه.
والشيطان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ينصب عرشه فى الماء على البحر ثم يبعث سراياه للناس يكيدون له, فأقربهم عنده منزله أكثرهم كيداً, حتى يأتيه الرجل فيقول: ما تركته حتى جعلته يقع في معصية، فيقول: ما فعلت شيئاً, إنه يتوب ويستغفر فيغفر له، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما تركت فلاناً حتى فرقت بينه وبين زوجته, فيدنيه ويقول: أنت أنت.
وهذا دليل على أن الشيطان -أيها الإخوة- يكيد لنا فى أمور ديننا ودنيانا {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] فالشيطان حريص على أن الإنسان يعيش فى تعاسة حتى فى دنياه, وحريص على أن الإنسان يحصل بينه وبين زوجته ما يحصل, ويحصل بينه وبين أولاده ما يسوء, فالشيطان يكيد لنا في أمور ديننا وفى أمور دنيانا, وعداوتنا للشيطان لا يكفى فيها أن نستعيذ منه فقط -وإن كانت الاستعاذة منه واجبة- ولا بأن نعرف فى عقولنا أنه عدو فقط، وإن كان هذا واجباً، ولكن مع هذا وذاك أن تقف منه موقف العدو من عدوه.
أيها الإخوة! أظن أنني أطلت عليكم بهذه الكلمة، ولذلك أختم هذا الموضوع بزبدة عسى الله أن ينفعني وإياكم بها, زبدة الموضوع أن هذه الكلمة كغيرها هي إما حجة لك أو عليك.
وخلاصته أن العلم الذى يفيدك ليس هو العلم الذى تسمعه بأذنك، أو تعرفه بعقلك، أو تقوله لغيرك، لا؛ بل هو العلم الذى يصل إلى قلبك, فيجعلك تنشط للطاعة، وتبعد عن المعصية, هذا هو العلم النافع، ونحن بحاجة إلى من يعلمنا ما نجهل من أمور ديننا, كما أننا بحاجة إلى من يذكرنا بأن نستفيد مما نعرفه سابقاً مثل: معرفتنا بالله، ومعرفتنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفتنا بالجنة، ومعرفتنا بالنار، ومعرفتنا بعداوة الشيطان، وغير ذلك من الأمور.
أسأل الله تبارك تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقيا ولا محروما, وأن يكتبنا فى هذه الساعة من الناجين من النار, وأن يكتبنا من أهل الجنة دار القرار, وأن يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة, وأن يتوفانا على الإسلام, ويختم لنا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.